أمر غير قابل للتفسير: فلسطين تنجب كل يوم دمها. تسكبه ارتواءً. لا تعطش ابداً. هي على موعد دائم ومزمن مع الولادات. في القارة العربية السائبة، مئات الملايين أموات يرزقون، تواجه ايامها بالانسحاب منها. تتسابق الى السقوط في الهاوية، الممتدة من المحيط الى الخليج.
أمر مبهم جداً. شعب ممنوع أن يوجد، إلا انه موجود ببسالة وضراوة، سلاحه دمه. خيامه أعتى من الحصون، مخيماته أمتن من القلاع، صدره جبهة مفتوحة، على امتداد الأزمنة. لا افهم كيف ان مئة عام من الاحتلال، والعذاب والتهجير والوحشية، أثمرت دائماً: شعباً صلباً. لعله من نسلٍ مختلف. موته الذ من خنوع مليار عربي، يكتبون اسماءهم بالفرنسية والعبرية، ويدَعون انهم مؤمنون ومثاليون وواقعيون.. لماذا لا ييأس الفلسطيني. يقاتل بأصبع يده الوسطى، بقبضته، بصمته، بصراخه، بدموعه، بقلبه، بقامته، باحتقاره، بتحديه، بعريه، بكل نبض في قلبه، كأنه من نسل آلهة لا تتوقف عن الانجاب… وهذا منذ قرن وأكثر. انه شعب لا يتوقف عن الامساك الدائم بكل فلسطين، بفلسطين الأم والأب والدين وكل ما ينتمي الى الحق والعدل. لا ينظر خلفه. حسناً فعل عندما أعلن يأسه من عرب بائدة وفائضة الجبن وخبيثة الانسحاب، والتفوه بكلام تليق به المراحيض فقط. عرب ذات نشاط متزايد، وتبرير فارغ. يدعون لتحسين ظروف حياتهم ورفاهيتهم وزيادة حصتهم من عائدات النفط ومكافآت الركوع والخضوع والصمت. يعتبر عرب البائدة المليونيون انهم صواب. بلغ بهم الرخص والسفالة. أن باتت بعض عواصمهم وبلدانهم، تنطق بالعبرية، وتبتعد بالعربية عن السياسة والقضايا، حفاظاً كاذباً على نص ديني، نزل بالعربية. والدين ليس لغة، بل روح. لقد اغتال هؤلاء ارواحهم… انهم ماضون الى الامام، هرباً من فلسطين… “فيا اسرائيل انجدينا”.
ماذا بعد مئة عام؟ ماذا بعد انسحاب عرب الى “السلام ” المهزوم، وإقامتهم في مراقبة الصمت. أنظمة بنت سلطتها على تلقين اتباعها، فضيلة الصمت: فلسطين ممنوعة. الانتفاضة خبر عابر. المواجهات مزحة بلا ردود فعل. الكبت السياسي ماضٍ الى التعتيم الاخلاقي. العربي اصلاً، كائن سليم واع ويعرف طعم الظلم. كانت بدايات وجوده، متصلة بالوجع الفلسطيني. العرب، من المحيط الى الخليج، انتسبوا الى فلسطين. كانت فلسطين مقيمة في الصحافة والإعلام والاذاعات والصحف والمدارس والاندية والاحزاب… كان كل عربي ينتسب الى فلسطين. الى ان اصبحت فلسطين ثورة مسلحة لتحرير الوطن من الاحتلال. هنا، بدأت الحسابات: أيهم أهم: النظام (النظم) العربي أم فلسطين. وبسرعة انحازت الأنظمة الى حراسة عارها، بالانسحاب، عبر شرطة ورجال امن وتجسس على الانفاس. فتحت ابواب الزنازين، اغتيل قادة وكتَاب ومفكرون. تحولت صفحات الصحف الى مدحيات بالسلطة والسلطان. اعتاد العرب الضعفاء على الجبن. “مية مرة جبان ولا مرة الله يرحمو”… الانظمة الاستبدادية ارتكبت جرائم بحق من يخالفها الرأي، فكيف لا تقضي وتبيد، كل من سوَلته نفسه في ان يكون مشروعه السياسي والاخلاقي متصلاً بفلسطين… نعم، كثيرة العواصم العربية، كانت مضطرة ان تكون فلسطينية، ولكنها وعت، على انها تخاطر بسلطتها ومهددة بالفوضى. ولقد حصل هذا وذاك. العرب اليوم، ركام، وارقام حسابات، وقبائل وطوائف ومعارك ودماء وسفالات، وتسابق لخطب ود العدو الامبريالي الاول: الولايات المتحدة الاميركية، تطويباً لقاعدة رثة: إذا لم تكن ذئباً اكلتك الذئاب…
سؤال: كم عدد البلدان التي تحولت الى سجون لمن يتجرأ على السؤال؟ والشعوب العربية تدربت كل هذا الزمن على ان تزحف على جبينها.
ما الذي ينتظره الفلسطيني؟ علام يعوَل؟ أي أفق امامه؟ أهو ملزم بأن يكون على الجلجلة، والقيامة بعيدة، بعيدة بعيدة؟ أيستطيع ملازمة سيزيف في حمل الصخرة، على رجاء لا يحضر. رجاء ممنوع. رجاء معتقل، في إضبارات “الامم الكواسر”، و”الامارات الخادمة”. والانظمة المعتلة اخلاقياً.
ولكي لا يُقال بأننا نبالغ، نكتفي بما يلي: “رجاءً”، ابحثوا عن الحرية في بلاد ما بعد سايكس بيكو. ابحثوا عن الديموقراطية التي تنجب سياسة واعية إقناعيه. فتشوا عن احترام الانسان عبر الخضوع لشرعة حقوق الانسان الدولية. اسألوا عن المحاسبة والشفافية. أين تجدونها. في أنظمة الامراء والملوك؟ في الأنظمة العسكرية؟ في الأحزاب الدينية والطائفية؟ دققوا قليلاً: هل عندنا قضاء؟ كم عدد الأثرياء الملياريين من الانظمة المالكة وأنظمة العسكر التي تحولت الى وراثية؟ نعم… لا نبالغ. للعربي السائد قيمة ضئيلة جداً، لأنه داخ بالربح السريع، بالصفقة المغشوشة، بالتبعية المهترئة والذليلة، بالأبهية وإنفاق الاموال من اجل فخامة جسده، تعويضاً عن نظافة عقله وعرضه وسمعته. انها مجتمعات لصوصية، تستطيع ان تقفز من الفقر الى الثروة، بصفقة لا أخلاقية مخزية.
المسألة ليست في اصول الناس، بل في البيئات التي ولدوا فيها، او نزحوا اليها. لذا، نحن امام شعب خاوٍ من القضايا. لا يسير على قدميه بل يزحف على جبينه لقاء حفنة وازنة من القضايا. وعليه، فلا دين يرجى هنا. المطلوب تمثيل الدين كعادة، وليس كإيمان. العربي اخلاقه ضحية خياراته وخوفه من المواجهة. لقد أطلق النار على عقله ومناقبه. اصابها في القلب. صار بلا قلب. و”فلسطين لها رب يحميها”. الأصح أن لفلسطين شعب يحميها.
الأفق الفلسطيني يرتاده قلة، لكنها قلة قوية وغير صامتة ابداً. علتها، انها ذات انتماء مذهبي شيعي، يتناقض مع الانتماء السني، من المحيط الى الخليج. إلا ان الانغماس في معركة المصير، جمع قادة “حماس” في فلسطين، وقادة المقاومة في لبنان، وقيادة ايرانية، على خلاف حاد مع منظومة عرب اميركا واليهود، يفتح نافذة للتفاؤل. لم تعد “اسرائيل” قادرة على الغزو والاعتداء بلا ثمن، باستثناء غاراتها على سورية وهذا حسابه في مكان آخر، انها ارض حاضنة لحقوق، وجهتها القدس وفلسطين.
هذا ليس من باب التفاؤل، بل من باب الواقع. وحتى الآن، لا خشية من اندلاع حروب صغيرة أو كبيرة، بين عرب الردة وعرب الممانعة. اليمن بعيدة – لبنان حاضر. إيران كذلك. غزة ايضاً وأيضاً.. إلا أن ما يجب ان يحسب له ألف حساب هو العملاق الفلسطيني الذي لن يدع الاحتلال يستريح ابداً. شيرين ابو عاقلة، أيقظت ضمائر العالم الانساني. (احذفوا السياسيين) العالم كله، حتى تلك الدول النائية التي نجهد لنذكر اسمها، رفعت لواء فلسطين في كل المناسبات، تحية لشيرين وشعبها الذي رفعها الى مقام الايقونة والمعجزة والحب. وهي تستحق ذلك.
في لبنان. من يفتعل فهماً مغلوطاً للانقسام اللبناني. المسألة ليست في السيادة. لم يكن لبنان مرة خلال مئة عام سيداً مستقلاً. انه ساحة. انه ملتقى التناقضات الطائفية والاقليمية والدولية والاسرائيلية ايضا…. لبنان مشكلته ليست في سيادته، بل في فريق، مزمن جداً، ومستجد قليلاً، يريد الانسحاب من فلسطين، مستسهلاً التطبيع. هؤلاء لا يعرفون لبنانهم. لبنانهم منقسم: مع العروبة وضدها. مع الشرق ومع الغرب، مع فلسطين ولا علاقة لنا بها الخ… وهذا الانقسام لا شفاء منه ابداً. لبنان الفلسطيني صامد ومتقدم ويستعد لمستقبل فلسطيني .. نقيض الاحتلال.
لا يعول على عرب النفط وانظمة الاستبداد. ولا يعَول ابداً على سراب السلام. كل “سلام” مع “اسرائيل”، استسلام. هذا ليس تخميناً او تشبيحاً. اقرأوا جيداً المواثيق، تابعوا الخطوات المتسارعة. كل “سلام” اقدمت عليه انظمة هو استسلام. مصر نموذج. المطَبعون الجدد يمارسون الديمقراطية مع “اسرائيل”، ويبتكرون قمعاً مستداماً.
ولا يعوَل على غرب لا أخلاقي وعنصري مكتوم. برهاننا واضح:
الغرب يرى ويعرف ويدرك ويتابع “إسرائيل” في ارتكاباتها الفادحة والفاضحة، الغرب العنصري، لا يجرؤ ان يرفع اصبعه في وجه “اسرائيل”. ان عذابات الفلسطيني مستدامة. “اسرائيل” ترتكب كل يوم فاحشة اخلاقية وانسانية. انها تقتل يومياً. انها تعتقل يومياً. انها تعذب وتعتدي باستدامة. انها ترتكب ما لا يحتمل. يعذبون الاطفال، الامهات، العجائز، التلامذة. يخوضون حرب شوارع في المخيمات. الفلسطيني يواجه ويدافع بدمه… والغرب يتعامى ويخرس. واصدقاء “اسرائيل” من العرب، يحظون برعاية غرب يرتكب الزنا والعهر السياسي، في ما له علاقة بفلسطين. “اسرائيل” معفاة من اللوم والعقوبة وتطبيق القوانين والأعراف الدولية.
على من يعوَل.
على الشعب الفلسطيني اولاً وأخيراً، وبينهما عصبة من المؤمنين، ان المعركة مع “اسرائيل” هي أشرف المعارك على الاطلاق، وهي واجب وطني وقومي وانساني.
فلسطين اليوم تشبه شيرين ابو عاقلة.
حيَ على الكفاح المستدام.