طلال سلمان

فلسطين تقتحم مصر مجددا

عاش العرب، أمس، لحظات انتعاش سرعان ما استولدت أحلاماً يعرفون أنها ستذوي قبل غياب الشمس: لقد افترضوا أن مصرهم قد عادت، أو هي في طريق العودة إلى ذاتها وإلى دورها وإليهم، وأنها تهم باستعادة دورها المفتقد والذي لا يعوّضها فيه أي شقيق …
كان مشهد الاجتياح البشري لأسوار العزلة أو العزل أسطوري البهاء، معنوياً، على بؤس دلالاته الفعلية: آلاف الفلسطينيين من أهالي غزة الذين أذلّهم الاحتلال في كرامتهم فجوّعهم، وأنهكهم الانقسام الداخلي فذهب بقوتهم، وأضعف إرادة المقاومة فيهم التخلي العربي الذي ترك مصيرهم للعدو ، يندفعون إلى إخوتهم في رفح المصرية وفي العريش، كمن يولد مرة أخرى، كمن يستعيد نفسه وتُكتب له حياة جديدة.
كان لا بد أن تفتح مصر حدها الذي أُجبرت على إغلاقه وتسويره بالبنادق والحديد، عندما أُجبرت على أن تحاصر نفسها، وتنعزل في قوقعة الصلح الذي لم يكن إلا خدعة لإخراج مصر من هويتها ودورها…
وبرغم التبرير الرسمي بأن القاهرة قد فتحت الحدود أمام إخوتها الجياع من أهالي غزة، فإن الناس على ضفتي العزلة المفروضة قد تصرفوا وكأن الشواذ يتهاوى أمام الطبيعي .
ربما لهذا لم يكن القرار المصري بفتح المعبر بين العين والعين، بين الرئتين، بين الرفحين المتلاصقتين في النسب والتاريخ والجغرافيا، والمتداخلتين كمدينة واحدة، مفاجئاً لا لأهالي غزة خاصة ولا للفلسطينيين عموماً.
كان مؤكداً أن القاهرة سوف تقرّر فتتصرّف، في لحظة انتباه إلى حجم المأساة التي تتهدد حياة شعب شقيق كان ينظر إليها دائماً على أنها مصدر حمايته ورعايته وضمانة مستقبله.. ذلك أن لمصر مسؤولية عامة في المنطقة العربية (وأفريقيا) ومسؤولية خاصة تجاه فلسطين، وبالذات منها قطاع غزة الذي تعوّد أن ينظر إليها أهله على أنها مرجعيته و ولية أمره وإن لم تكن دولته بالمعنى الرسمي…
ومصر تعرف، كما يعرف أهل غزة أن السور المصفح بالبنادق قد أقيم بالإكراه بينها وبين هذا القطاع الذي تولت المسؤولية المباشرة عنه، حماية وإدارة، لحوالى ربع قرن، والذي كان يشكل حبل السرة بين الداخل الفلسطيني و الخارج العربي..
ثم إن العرب عموماً، والفلسطينيين على وجه الخصوص، وفي غزة بالذات، ينظرون إلى مصر دائماً على أنها أرحب من أن تخاصم، وأن شعبها أطيب وأكرم من أن يقدم عدوه (السابق؟!) على أهله، أمس واليوم وغداً.
بالطبع، فإن فتح السور مؤقتاً، أو تنظيم فتحه مستقبلاً بحيث يظل طاقة رجاء للفلسطينيين، ومنفذاً من الحصار الإسرائيلي المهين (للعرب جميعاً)، سيطرح مسائل أكثر تعقيداً من العواطف التي تبادلها أهل الرفحين ، أو العملية التجارية التي تمت بين تجار مقيمين ومشترين عابرين.
لقد عادت قضية الحصار الإسرائيلي المفروض على العرب جميعاً عبر فلسطين تطرح نفسها بحدة على كل الذين كانوا يأملون أو يتوهمون أو يعلقون آمالاً ثبت أنها لم تكن إلا أوهاماً، على رؤيا الرئيس الأميركي جورج بوش وتعهداته و خريطة الطريق التي خرج عنها ليدعم يهودية الدولة الإسرائيلية، ويلغي فعلياً مشروع الدولة الفلسطينية، ويُسقط حق العودة، بينما تواصل إسرائيل بناء مستعمراتها من حول ما كان يسمى القدس العربية فتخنقها، وتنذر عرب 1948 فيها بالتهجير، لتطهير أرض الميعاد..
وطبيعي أن يقود هذا كله إلى تطورات لم تكن في حسبان الذين استقبلوا الرئيس الأميركي بالسجاد الأحمر وسلموه سيوفهم المذهبة ليرقص بها (وهي في أي حال لم تعد تنفع إلا في الرقص)…
لقد كسرت غزة جدار عزلها، مرة، وأسقطت كل التعهدات والوعود التي أُعطيت للعرب، عبر السلطة التي تستدر الشفقة.
لكن هذه المرة ستفتح آفاقاً أوسع… وقد تسهم في تغيير المشهد الفلسطيني، وسياق المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، عبر إجبار عرب السلام على إعادة النظر والتفكير في جدية التعهدات التي نالوها من الإدارة الأميركية (ودفعوا ثمناً لها عشرات المليارات الإضافية… إضافة إلى خضوعهم لمصالح الإمبراطورية الأميركية التي لا مكان لهم فيها…
إن كسر الحصار سوف يتكرر، وقد يستولد حالة وعي فلسطينية جديدة، بضرورة استعادة الوحدة، إذا ما ساعد العرب إخوتهم المشرذمين، المقموعين، المجوّعين والذين يتجرعون الإذلال كل يوم، ليس في غزة وحدها، بل كذلك في الضفة الغربية، فضلاً عن ديار الشتات…
والخطوة الأولى قد تقود إلى خطوات أخرى تبلور أكثر فأكثر خطورة الدور العربي في توفير الوحدة الفلسطينية وتأمينها ضد مخاطر الفرقة…
لقد اندفع الفلسطينيون نحو أهلهم في مصر، ليس فقط بدافع الجوع والحاجة إلى الخبز، بل أساساً بدافع الحاجة إلى الشعور بأنهم ليسوا وحدهم، وبأن إخوانهم لا يقيمون من حولهم الأسوار، تاركين مصيرهم كشعب وكقضية لعدوهم الإسرائيلي.
… وهذا هو الخروج الأول من قفص الاحتلال والانقسام، لكنه لن يكون الأخير…

Exit mobile version