طلال سلمان

فلسطين تفك حصارها وحصارنا

سيفاجأ كولن باول عند بلوغه محطته العربية الأولى في المغرب، اليوم، أن هذه الدنيا الواسعة الممتدة »ما بين المحيط والخليج« لم تعد هي تلك التي عرفها خلال جولاته (الامبراطورية) السابقة فيها، ولا بشكل خاص تلك الأرض التي شكلت ميدان انتصاره العسكري الباهر (عليها؟!) في مثل هذه الأيام من العام 1991.
سيكون وزير خارجية جورج بوش »محاصرا« حيثما حطت به الطائرة، وسيشعر أن مضيفه »العربي« الذي سيستقبله بكثير من الحرج المشفوع بالرجاء، »محاصر« هو الآخر، وان »فلسطين« تملأ جنبات القصر وتفرض لغة مختلفة في التحليل وفي الاستنتاج وفي تحديد القرار العتيد.
لن يكون في وسعه الترويج للحرب الأميركية الجديدة ضد العراق، تحت ضغط التلويح بتصنيف المتخلف أم المتردد بأنه نصير »للارهاب« أو شريك فيه، وبالتالي فقد حُق عليه العقاب، بل سيُخاطب بوصف إدارته هي صاحبة قرار الحرب الاسرائيلية على العرب في فلسطين، وانها تقترب بخطى حثيثة من صورة »العدو« تماما بقدر ما تستعيد اسرائيل صورتها الأصلية كعدو.
سيكون مضطرا لأن يطوي صفحة 11 أيلول، لأن إدارته قد قدمت بتغطيتها للحرب الاسرائيلية في فلسطين النموذج المضاد الذي يعيد الى الحقيقة اعتبارها، عبر التوكيد وبالدم على الفارق الفعلي بين المقاومة، وهي حق مطلق، وبين »الارهاب« وهو شر مطلق عندما تعتمده هذه الدولة أو تلك سياسة رسمية معلنة، كما تفعل اسرائيل تحت حماية الإدارة الاميركية وبتأييدها المفتوح.
لقد حرر إرهاب الدولة الذي ترتكبه اسرائيل منذ زمن بعيد، والذي بلغ ذروته في حرب الإبادة ضد شعب فلسطين، الأعزل والمعزول عن الدنيا باحتلالها، »العرب« من شبح 11 أيلول الذي حاصرهم وحصرهم في دائرة المتهم (الأوحد) بالارهاب، وأعاد تظهير صورتهم داخل عالم الضحايا لعنوانه الفلسطيني المتوهج بدم الفداء.
ستكون فلسطين حيثما توجه كولن باول، وسيكون عليه أن يحفظ أسماء مدنها جميعا التي تهتف بها شعوب الأرض: تحيي صمودها البطولي وتقدمها كأدلة لا تدحض على التواطؤ الأميركي الاسرائيلي في الجريمة الجديدة التي فرضت الصحوة على الضمير العالمي، والأخطر أنها فضحت »حلفاءه« المتهالكين من سلاطين العرب.
انقلب السحر على الساحر: إن فلسطين التي فكت بدمها الحصار تملأ العالم كله الآن،
ولقد تهاوت حلقات الحصار من حول المواطن العربي دفعة واحدة، بفضل فلسطين، فخرج من مخبأه حيث كان ينام مع خوفه من »سلطانه« ومن اسرائيل ومن الولايات المتحدة الأميركية كلهم معا!
إن الجماهير العربية التي استعادت وعيها واستعادت »شارعها« تمهيدا لاستعادة دورها، تعرف الآن وبالدليل الدموي الذي لا يدحض أن الاحتلال الاسرائيلي بقرار أميركي، وان استمرار حصار الموت من حول فلسطين قرار أميركي، وان الأمر بالانسحاب قرار أميركي… ومن هنا الاشتباه بدور سلاطينهم فيه، ولو بالتغاضي عنه حتى لو كانوا عاجزين عن منعه.
وهذه الجماهير قد أدركت بوعيها المستعاد أن فك الحصار عن فلسطين يكون بمحاصرة المصالح الأميركية الهائلة في دنيا العرب، وأهم هذه المصالح وأخطرها هي الأنظمة العربية المتخاذلة أو العاجزة أو المتواطئة، موقعة صكوك الاستسلام باتفاقات الإذعان المنفردة.
إن اسرائيل، معززة بالقرار الأميركي، مشت الى الحرب ضد كل العرب في فلسطين مطمئنة الى أن سلاطين العرب، الذين يعيشون بالولاء للولايات المتحدة وكحماة للمصالح الأميركية في المنطقة، لن يحركوا ساكنا، بافتراض أن جماهيرهم المغيبة منذ دهور عن العمل السياسي ستتلقى المصيبة الجديدة كقدر لا راد له، وستكتفي بالندب ونظم المراثي للمدن الفلسطينية الشهيدة وببعض مؤتمرات الكلام وعروض »السلام« (المرفوضة) وكفى الله المؤمنين شر القتال!
ولقد مشى السفاح شارون الى حربه الجديدة مطمئنا (ومعه أقرب الأميركيين إليه كصديق حميم، كما وصف جورج بوش نفسه، أمس الأول) الى أنه لن يلقى مقاومة في الداخل، ولن تواجه حربه اعتراضات جدية في الخارج، لا في الخارج العربي ولا في الغرب سواء منه الأوروبي أو الأميركي على وجه الخصوص.
وكان مما أكد اطمئنان شارون الى سلامة قراره أن الاسرائيليين قد التفوا من حوله مجددا، فاستعاد »أكثريته« لدى هذا الجمهور المتعطش الى الدم باستمرار، في حين أن »الجمهور العربي« قد انفض عن سلاطينه العجزة ونزل الى الشارع ليؤكد اعتراضه على تخاذلهم مساويا بينهم وبين شارون وجورج بوش.
لقد ولدت فلسطين بطولة عربية جديدة أقوى من الأسطورة وأبقى: فجنين تستعيد بورسعيد، ونابلس تستعيد »الكرامة«… والانسان العربي يستعيد ثقته بنفسه وبقدراته.
وبقدر ما ثبت الفلسطينيون في أرضهم، وقاتلوا دفاعاً عن وجودهم وعن حقوقهم وعن مدنهم التي غدت الان مصدراً للقداسة، فقد اثبتوا انهم طليعة عربية متميزة، بل وطليعة لكل المظلومين والمقهورين والمضطهدين في العالم، فالتفت من حولهم شعوب الشرق وشعوب الغرب، حتى داخل الولايات المتحدة الاميركية ذاتها.
لقد اعاد الفلسطينيون الاعتبار ومن ثم الحياة الى »الجمهور«، الى الشعب، لانهم »جمهور«. حتى »رئيسهم« تبدى عبر الحرب الاسرائيلية واحداً من »الجمهور«، يُحاصَر مثله، وتُقطع عنه الكهرباء والمياه، مثله، ويُمنع عنه الدواء والطعام، مثله.
أسقطت الحرب الاسرائيلية الاميركية الحواجز التي كان يراد تثبيتها بين »رئيس السلطة« و»الشعب«، فذابت »السلطة« تماماً واكتسب »الرئيس« صفات الرمز، وأخرجته التجربة من »زمرة« السلاطين الملعونين.
***
ها هي فلسطين تعيد الى العرب »وحدتهم« وتؤكد ما كان ثابتاً في يقينهم ثم تم تشكيكهم فيه، من ان عدوهم واحد ومصيرهم واحد، وان لا امن ولا رفاه ولا سيادة ولا استقلال ولا تقدم لاي قطر من اقطارهم لوحده، وبعيداً عن الاخرين وبمعزل عنهم او على حسابهم.
ان القذيفة الاسرائيلية تخترق الوطن العربي الكبير من اقصى الخليفة امير المؤمنين في المغرب الى »نائب عميد« الحكام العرب في اليمن السعيد.
ان الوطن الكبير كله تحت الاحتلال. ان كل مواطن فيه تحت الحصار.
بالمقابل فان الدم الفلسطيني يحاصر السفاح الاسرائيلي ويصده عن جنين الباسلة، وعن مخيمها الذي جعلته الارادة حصناً لا يؤخذ، حتى بعدما هدمت قذائف الدبابات وصواريخ الحوامات (وهي دائماً اميركية) أكواخه وبيوته المتهالكة، ونشرت في طرقاته المتربة والضيقة جثث شهدائه الذين لا يجدون من يدفنها.
..والدم الفلسطيني يتوهج فيفضح القاتل الاسرائيلي في بيت لحم حيث يقاتل السيد المسيح الآتين لصلبه من جديد.
لقد اعطتنا فلسطين اسماء ابنائنا الذين سيولدون غداً وسيحملونها في قلوبهم وعلى وجوههم: نابلس، طولكرم، جنين، قلقيلية، بيت لحم، رام الله، البيرة، بيت جالا الخ.
اما كولن باول فلسوف يجد نفسه في دنيا غير التي عرفها من قبل: غريباً، مريباً، مخيفاً، لكنه سيكون مكشوفاً مفضوحاً، محرجاً لمضيفيه لانه لا يملك ان يعطيهم مطلبهم في الامان، لان الامان صار في الشارع، والشارع في فلسطين، وفلسطين على خط النار: تقاتل وتستشهد الف مرة في الساعة، ولكنها لا تسقط ولا تلقي السلاح!
صدقت نبوءة محمود درويش: ها هو المحاصَر يحاصر حصاره، ويتقدم نحو النصر.

Exit mobile version