طلال سلمان

فلسطين تعود إلى دمها…

ها هو الآن يعود إلى حيث كانت البداية، وإلى حيث ستتجمّع حتماً البدايات والنهايات للصراع المفتوح باتساع الماضي والحاضر والمستقبل: فلسطين!
ها هو جمال عبد الناصر في فلسطين، من جديد.
وها هي فلسطين تعود إلى حيث تعوّدت أن تكون دائماً: إلى دمها تمتشقه وترشق به وجه المحتل والمفرّط والمتخلي.
.. ترشق به الجنود الأغراب المستقدمين لكي يمسحوا اسمها ووجهها، وليزوّروا هويتها ولسانها وأنبياءها والتاريخ.
ترشق به اتفاقات الإذعان فتفضح الموقِّعين على ما كتبه عدوهم فلم يقرأوه، وتُسقط ذرائعهم التي تنسب »هرولتهم« إلى الالتباس أو إلى الإحباط واليأس من »العرب«، لتبرِّئهم من التزوير من جديد، وها هي تستعيد أيامها معه.
ها هو جمال عبد الناصر في فلسطين من جديد، وها هي تستعيد أيامها معه.
كان فيها ومعها تحت الحصار، في العام 1948، يقاتل حتى آخر طلقة، فإذا ما عزّ الرصاص فبيديه وأسنانه ولا يستسلم،
وهو الآن فيها ومعها تحت الحصار، في العام 1996، وهي تقاتل حتى آخر طلقة، فإذا ما عزّ الرصاص فحتى آخر حجر، وإذا ما عزّت الحجارة فحتى آخر طفل منذور للشهادة، ولا تستسلم.
لا هو رمى سلاحه القليل والمتهالك ورفع العلم الأبيض، بالأمس، ولا هي ترفع الأعلام البيضاء برغم ندرة سلاحها الآن. الروح أمضى الأسلحة جميعاً وأقدرها على إسقاط الأمر الواقع المفروض بالقوة وكأنه قدر لا يُرد.
الرجال هم الأقدار، فإذا ما أرادوا هان أمر السلاح.
ها هو جمال عبد الناصر في فلسطين من جديد، حيث عرف الطريق إلى مصر، مصر التي لم تتعرّف إلى ذاتها إلا عبر فلسطين، ومعها.
وها هي مصر تنهض من نومها وتتخذ طريقها مجدداً إلى فلسطين لتستعيد ذاتها ودورها واسمها »كنانة الله في أرضه«.
أسقط الدم الحدود، منذ زمن بعيد، موحِّداً بين الشهداء، ولم تكن مصادفة أن تخرج مصر وفلسطين معاً لتشييع الذين أحيوا حلم التحرير ووحدة المصير.
* * *
منذ ستين عاماً وفلسطين تحت الحصار: حصار التجويع، حصار الترويع، حصار النار، حصار الاعتقال الجماعي، حصار الإرهاب اليومي وغول »الاستيطان« المعزَّز بعنصريته، يلتهم الأطفال والنسوة وشجر الزيتون، الفلاحين والبرتقال وسنابل القمح.
منذ ستين عاماً، أو يزيد، تستصرخ فلسطين أهلها: »ستذهبون طعماً للنيران إن لم تقاتلوا. لا سلام مع القتلة المحصَّنين بوعد إلهي مزعوم. كيف »يصالحك« مَن لا يعترف بك بشرياً مثله«؟!
منذ ستين عاماً، أو يزيد، وفلسطين تهتف بأبنائها: »لا حياة لكم خارج أمتكم. عروبتكم ضمانتكم حتى وهي ضعيفة، وكيانيتكم تكمل دائرة الحصار عليكم فتعزل واحدكم عن الآخر، وتفتح في ما بينكم خنادق من دم، فيأخذكم العدو بغير قتال«.
ولقد كان ضرورياً أن يتساقط الشهداء على جانبي الشريط الذي يشطر قلب رفح نصفين حتى تعود فلسطين إلى مصر وتعود مصر إلى فلسطين، فتتكامل »القضية«، بينما سائر الأخوة في الطريق.
* * *
ها هو »الجامع« يستعيد اسمه ووظيفته.
لقد تبارك الحرم القدسي بدم الشهداء الذين يعدلون الأنبياء.
»الجامع« هو الآن، وغداً ودائماً… و»المسجد« بعض من حرمه ووظيفته.
أوَليس الجهاد صلاة؟! أوَليست الشهادة إيماناً؟! وهل كان »الجامع« في دوره الأصلي إلا منطلقاً للجهاد وملجأ للثوار المتنكبين دمهم طلباً للنصر أو الشهادة؟!
* * *
»ليسقط غصن الزيتون«، كان الهتاف في أرض الثورة والجهاد الحق يوم أمس.
لا يعيش غصن الزيتون بعيداً عن شجرته المباركة، ولا تعيش الشجرة المباركة متى اقتُلعت من أرضها المباركة.
لعلهم قد قطعوا الغصن مبكّرين، فأجازوا لهم أن يقطعوا الشجرة.
* * *
ماذا عن الغد؟!
وأين سيصب شلال الدم الذي أعطته فلسطين، مرة أخرى، بغير طلب، وبغير حساب؟!
لقد بدأت المساومة على الدم، من قبل أن تمتصه الأرض فتتطهّر به من إثم الاحتلال.
ومفهوم أنها ليست »حرب التحرير الشعبية«، وليست منطلقاً للعودة إلى شعار »من النهر إلى البحر«، ولا هي الجولة الأخيرة أو الحاسمة في »تدمير الكيان الصهيوني«،
لكن »الصورة« ليست تعادل قطرة من هذا الدم القدسي.
وتجديد الاتفاق المتهاوي تحت أجداث الشهداء، والذي اغتاله الحصار من قبل أن يخنقه صاحبه معه في »النفق«، لن يُخرج الاحتلال ولن يأتي بحلم الاستقلال ودولته الفلسطينية العتيدة.
إن العالم يعترف الآن »بشرعيتين« فوق أرض فلسطين،
والعالم يكاد يؤاخذ الفلسطينيين على أنهم لم »يأخذوا« ما كان بإمكانهم أن ينالوه من حقهم في أرضهم، وهو يكاد يحرّضهم الآن لتصحيح خطأهم القاتل.
والعرب ينتبهون من غفلتهم التي استطالت دهراً، ويهمّون بالخروج من ليل الهزيمة والعجز ليتبيّنوا حقيقة إسرائيل، وليقفوا مذهولين أمام مفارقة مذهلة: كيف يمكن لبعض الفتية في بعض أنحاء جنوب لبنان، أو في بعض أنحاء فلسطين، أن »يهزموا« هذه القوة الأسطورية التي لا تُقهَر، ثم يعجزون هم عن مواجهتها والصمود في وجه اجتياحاتها المتوالية، بل ويهرولون إلى الاستسلام لشروطها صاغرين؟!
إنها لحظة تاريخية سيكون لها ما بعدها.
إنها نقطة بداية جديدة لطور جديد من أطوار الصراع العربي الإسرائيلي.
لقد وفّر التطرّف الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو فرصة تاريخية لكي يتعرّف العالم إلى حقيقة إسرائيل التي تجافي منطق العصر، قبل العدالة وحقوق الإنسان، ولكي يتعرّف فيعترف ببعض حقوق الفلسطينيين في أرضهم.
وحرام أن تضيع هذه الفرصة التي استولدتها دماء الشهداء من أجل زيادة »صلاحيات« السلطة الشكلية وشرطتها الملجومة القرار والسلاح بإرادة الاحتلال الذي ينصِّب نفسه مرجعاً »شرعياً« لتلك السلطة.
إن رائحة الدم الزكي تعطر الآن الأفق على امتداد الأرض العربية، وتعيد الوعي إلى الأمة التي كانوا يحاولون القضاء على روحها.
وبعض الصمود يوفّر الكثير من الدماء والأعمار والأزمنة.
والأمل، مجدداً، بمصر التي تعرّفت إلى ذاتها في فلسطين ومعها.
وها هو جمال عبد الناصر ما زال صامداً مع الصامدين في فلسطين يقاتل لفك الحصار.

Exit mobile version