طلال سلمان

فلسطين تسبح في دمها عرب

العين على أفغانستان، والعقل في واشنطن، والقلق على الذات، بينما الإرهاب الإسرائيلي يستشري قتلاً وتدميراً في فلسطين.
الشهداء أرقام، مجرد أرقام صماء، أما الجرحى فخارج دائرة الإحصاء، وأما الخسائر المادية فلا ضرورة لذكرها، إذ ما قيمة الحجر بعدما تسقط قيمة البشر… لكل هذا فلا ضرورة لأن يكون الخبر الفلسطيني في المركز الأول من النشرة المرئية أو حتى المسموعة، وماذا يعني تكراره في صدر الصفحة الأولى طالما أن القارئ لن يتوقف أمامه إذ سيعتبره »خبراً بائتاً«، وقد يفترض أن الصحيفة تعوّض ما فاتها بالأمس أو أنها تنشره قياماً بواجب ثقيل، مهنياً وسياسياً، لأن »الأخلاق« توجب ذلك!
ابتلع المسؤولون العرب ألسنتهم، وأداروا وجوههم واهتماماتهم نحو مصير بن لادن ومستقبل »طالبان«.
نفد عندهم بئر الكلام. أطلقوا كل ما عندهم من تعابير الشجب والاستنكار يوم 11 أيلول وما بعده. لم يتبق من التعابير اللائقة بالتعازي ما يمكن أن يوجه إلى الفلسطينيين. ثم، ما نفع الكلام؟! مَن يجرؤ على تحدي الوحش الذي اسمه أرييل شارون؟!
ثم أن الفلسطينيين قد »زادوها«: يغتالون وزيراً؟! هذا فوق الطاقة على تبريره أو طلب السماح عنه! لقد تجاوزوا الحدود، وكان عليهم أن يتوقعوا أن تجتاح الدبابات الإسرائيلية السلطة والمدن والمخيمات والاتفاقات والتعهدات فضلاً عن »قرار« وقف إطلاق النار.. مع التحيات لجورج تينيت وجورج ميتشل والأخ موراتينوس!
ومن قبل ومن بعد: ماذا بوسع العرب أن يفعلوا؟! من قبل كانوا عاجزين، فكيف الآن وهم في موقع الاتهام، توزع عليهم »الحكومة الكونية« مذكرات التوقيف بحق مواطنيهم وتنتظر أن يبادروا فورا إلى اعتقالهم وتسليمهم لتقديمهم إلى »العدالة بلا حدود«… وتقدم لهم مؤسسات دولية، بينها مَن يتبع للأمم المتحدة، مساءلات حول مصادر ثروة هذه أو تلك من منظماتهم السياسية، هذا أو ذاك من المتمولين أو من القياديين والمجاهدين لتحرير بلادهم، متوقعة أن يحجزوا عليها وعليهم، كدليل إثبات على علاقتهم بالإرهاب والإرهابيين، ومن ثم محاسبتهم على ما جنت أيديهم؟!
فلسطين تسبح في دمها الآن،
ولكن مَن باله في فلسطين أو مع الفلسطينيين الآن؟!
.. حتى القيادة الفلسطينية لم تطالبهم بشيء، اللهم إلا مساعدتها في لفت نظر واشنطن وإدارتها، إن كان عندها فضلة من الوقت، إلى ضرورة الاهتمام بمصيرها المهدَّد الآن بالتهاوي تحت ضغط الاحتلال الإسرائيلي المتجدد للمساحات القليلة من الأرض الفلسطينية التي تحت سلطتها!
أما مصدر »الأمل« الجدي فهو الآن إسرائيلي بداية وانتهاء: قد يحمل اسم شمعون بيريز، أو اسم »حزب العمل«، ولكنه إجمالاً ينبع من الضغط الداخلي الذي تتعرض له حكومة شارون من داخلها، وفقاً لقانون الصراع بين المتطرفين والأكثر تطرفاً خصوصاً وقد ذهب كلاهما »يحتكم« إلى واشنطن…
ومع أن واشنطن بشخص وزير خارجيتها كولن باول »على الخط« مع عرفات، فإن الدبابات والحوامات والمدفعية الإسرائيلية لم توفر مدينة أو قرية أو مخيماً من مخيمات »اللجوء داخل الوطن« من قصفها المدمر، وهذه المرة من داخلها كما من خارجها.
إن فلسطين تسبح في دمها…
.. لكن الإرهاب الإسرائيلي أليف ومألوف، لذا فإن الاهتمام يتركز على الحرب ضد »الإرهاب الدولي« حيث يتمركز: في أفغانستان! بعد اتضاح الموقف هناك، وإسقاط »طالبان«، والقبض على أسامة بن لادن و»قاعدته« أو القضاء عليهم جميعاً، يمكن لفت نظر واشنطن إلى »خطورة الموقف في فلسطين«، أما قبل ذلك فإن الكلام سيضيع في الهواء.
ما قيمة بيت لحم وجنين وطولكرم وبيت جالا وبيت ساحور وقلقيلية والمخيمات التي فيها بالقياس إلى كابول وقندهار وهرار ومزار شريف؟! هناك يتقرر مصير الإنسانية، عموماً، والإسلام والعرب بشكل خاص، فهل نتخلى عن ذلك كله، ونعرّض مستقبلنا للخطر لكي ننقذ بعض القرى أو حتى المدن الفلسطينية من دمار إن لم تتعرض له اليوم فلسوف تتعرض له غداً؟! ثم ان الفلسطينيين قد ألفوا الاستشهاد ومواكب التشييع حتى صارت تقليداً يومياً له طقوسه في الداخل، وله متابعوه ومشاهدوه والمنتظرون لحلقاته الجديدة التي تبدو أكثر إثارة من المسلسلات المكسيكية أو العربية »الكلاسيكية« أو حتى اللبنانية المستحدثة والطريفة؟!
ثم، لعل المثل الشعبي يصدق مع فلسطين: رب ضارة نافعة!! فتفجيرات 11 أيلول نبّهت الولايات المتحدة إلى خطورة الإرهاب، وأحوجتها بالتالي إلى تحالف دولي، وهذا التحالف يحتاج إلى مشاركة العرب والمسلمين فيه، فإن لم يشاركوا فلا أقل من أن يباركوا، وهنا تجيء الفرصة الذهبية للفت نظر إدارة جورج بوش إلى ضرورة الاهتمام بالفلسطينيين… ولقد حدث، فاستجاب وأعلن عن أن تصوره كان يتضمن »فكرة« عن »دولة« ما لفلسطين، منزوعة السلاح وبغير حدود، لأنها متضمنة داخل الدولة الإسرائيلية وداخل موجبات أمنها وسيادتها المطلقة، وبغير اتصال أو أي علاقة من أي نوع مع »محيطها« العربي.
برغم هذا كله، فالعرب مطمئنون..
مطمئنون إلى أن السلطة الفلسطينية ما تزال »ضرورة« لإسرائيل بداية ثم أنها »حاجة« للمجتمع الدولي، والاتحاد الأوروبي في الطليعة منه، ودائماً في ظل الإرادة الأميركية.
وهم مطمئنون إلى أن جنون الدم الإسرائيلي لا يمكن أن يمتد إلى ما لا نهاية، خصوصاً وأن حكومة شارون التي استولدها الانسياق مع موجة التطرف إلى أعلى ذراها تبدو الآن وبرغم لجوئها إلى أقصى درجات العنف عاجزة عن وقف الانتفاضة في فلسطين، بل لعل هذه المواجهة اليومية التي لم تكن في خطة الذين تحركوا في رد فعل فوري على تحدي شارون مشاعرهم الدينية فضلاً عن كرامتهم الوطنية، قد أسهمت في تصليب عود السلطة ومنعها من مواصلة الخضوع للابتزاز الإسرائيلي الذي أفرغ »الاتفاقات« الكثيرة التي وقعتها في ما يشبه الإذعان،
وقد تكون »السلطة« قد ذهبت بعيداً، منجرفة مع شارعها الجريح والغاضب،
وقد تكون حكومة شارون قد ولغت في دماء الفلسطينيين بأكثر مما يتحمل العالم (غير العربي)، وربما بأكثر مما يحمي استمرار التطرف فوق سدة الحكم.
لكن في هذه التحولات جميعاً فإن العرب كانوا غائبين، ولعلهم سيغيبون أيضاً عن التطورات الجديدة التي ستشهدها غداً القضية الفلسطينية، التي تم »تدويلها« بالكامل، وصار العرب فيها »ضيوف شرف« حتى لا يُقال إنهم »شهود ذور«.
فلسطين تسبح في دمها..
… والأمل الآن في أن يتدخل »الجنرال شتاء« فتتعثر الحرب الأميركية على الإرهاب الدولي في أفغانستان، وتشتد الحاجة إلى مزيد من »التأييد« العربي والإسلامي، فيتذكر الجميع فلسطين، ويحصلون لشعبها على وقف جديد لإطلاق النار، تتزحزح فيه الدبابات الإسرائيلية إلى مداخل المدن بدل أن تبقى في داخلها، ريثما تختمر فكرة الدولة الفلسطينية في ذهن جورج بوش فتتبلور في مشروع سياسي قابل للحياة، ويتحقق حلم السلام العظيم!
اصمد يا أسامة! اصمد يا أمير المؤمنين! عجِّل يا ثلج، امطري يا سماء.. فالعرب ينتظرون، وآمالهم معلقة عليكم حتى لو جهروا بعكس ذلك!

Exit mobile version