طلال سلمان

فلسطين اولا ثم عراق ثم

… وفي اليوم الرابع من الحصار الطارئ داخل الحصار الدائم، كانت فلسطين تحاصر محاصريها، ويرفع أطفالها اياديهم الصغيرة باشارة النصر: ها هي تجدد انتفاضتها التي لمّا تنطفئ، وتواجه مرة أخرى بصدرها العاري الدبابات والجرافات التي تنهش، على مرأى من العالم كله بمن فيه الاشقاء العرب، رمز حلمها الذي لا يموت: حق شعبها بالحياة و»بدولة« له فوق ارضها التي من لحمه وأنفاسه واجداث الأجداد.
خرجت فلسطين الى الشارع الفارغ من الوسطاء الدوليين والشفاعات العربية، فاقتحمت سور المدرعات والآليات ورصاص العدو، تضيئه وسط الظلمة والظلم بنور عيون فتيتها الميامين، ورفعت صوتها بغضبها عليها توقظ النيام المذعورين سلفا، والذين يساومون بها على العراق، أو على العراق بها، وغالبا على العراق وعليها معا من أجل سلامة رؤوسهم وعروشهم المهزوزة.
لا تهرم فلسطين ولا تشيخ، بل هي تزداد توهجا كلما اغتسلت بدمها، وتجدّد شبابها كلما عانقت الاستشهاد. لا تركع ولو جائعة، ولا تستسلم ولو محاصَرة ومعزولة، ولا ترفع الاعلام البيضاء حتى والنار الاسرائيلية تحرقها بيتا بيتا، زيتونة زيتونة، فتى فتى وصبية صبية، مجاهدا مجاهدا ومخيما للصمود إثر مخيم للجوء الثالث.
لا تنقسم فلسطين على ذاتها حتى لو اختلفت القيادات فاختصمت، ولا تتنكر لعروبتها حتى لو تخلى عنها سلاطين الهزيمة، بل هي كلما استوحدت تزداد وحدة، وكلما هرب من مسؤوليتها المسؤولون المفترَضون عن سلامة الامة تتعمّق في انتمائها الى امتها وترفع الراية أعلى فأعلى على سارية من دمها.
لا تهرم فلسطين ولا تشيخ. كلما افترضت اسرائيل انها قد اصابت منها مقتلا، باغتيال القيادات أو بتدمير أسباب الرزق أو بتشويه صورة جهادها ودمغه »بالارهاب« وأنها قد نجحت أخيرا في تطويعها وتدجينها حتى قاربت الاستسلام، فاجأتها هذه الفلسطين التي لا تعرف الاستكانة وترفض الانتحار ولا تلقي سلاح ارادتها، بأنها اصلب منها هي أقوى دولة في المنطقة وخامس أقوى الجيوش في العالم واعظم مناعة، ولو عزلاء لا سلاح لها إلا دمها، مهدومة المنازل والدكاكين، مجرَّفة البيارات، وشهداؤها في الشوارع لا يجدون من يدفنهم الا المرشحون للشهادة.
من يحاصر من؟
ها هو شعب فلسطين من أقصى الشاطئ عند غزة بني هاشم الى مشارف »النهر« عند اريحا، يقول انه القائد والقيادة وصاحب القرار في من يحكمه ومن يمثله… يعيد الاعتبار الى ياسر عرفات وهو محاصَر ومعزول عن ناسه بوصفه الرمز والعلَم،كما لم يكن في أي يوم.
الى ما قبل أيام كانت فلسطين تحاسب عرفات بقسوة، ترفض خضوعه للضغوط وإخضاعَها للشروط الملغية لحقها في استكمال كيانها السياسي، وتعترض على تفرده واحتكاره للسلطة… لكن فلسطين اليوم تحفظه بقلبها وبنور العيون، لان اسرائيل تقتل فيه الرمز والعلَم، بينما »تعرض« على شخصه إذلال الخروج سليماً الى حيث يشاء من الدنيا خارجها.
* * *
في الايام الاولى نامت العنصرية الاسرائيلية هانئة مع اوهامها:
»ان ما جرى كان مجرد عرض بالصورة للترفيه، وخصوصاً للاذلال، والاذلال سلاح له معناه في الشرق الاوسط«.
»ان قديفة واحدة من دبابة شجعت موظفي مكتبه في البناية المجاورة على الخروج ليلا بأيد مرفوعه وبقمصان مفتوحة امام عدسات التلفزيون. لم يصل اي دبلوماسي الى الساحة المدمرة ليحاول التوسط. »يديعوت احرونوت«…«.
»الصراع بين شارون وعرفات شخصي.
»لم يعد يستحق ان يكون محاوراً لنا في التسويات السياسية، ان شعار »شريك في سلام الشجعان« خال من المضمون وكاذب تماماً. ماذا نفعل به الآن؟
»ثبت ان مختلف الاجراءات التي اتخذتها اسرائيل خلال السنتين الماضيتين من الصراع الراهن، عبثية ومن دون جدوى«.
اما ارييل شارون، الذي، كما يقول زئيف شيف في »هآرتس«، »يستذكر امه كثيراً كمن علمته أنه يجب ألا يثق بالعرب، فيبارك وزيرَ دفاعه واجراءاته التي ثبت انها رد غاضب اكثر منها خطوة متزنة«.
بالمقابل، فإن »معاريف« تنبه الى »اننا لسنا بعيدين عن الهجمة الاميركية على العراق التي ستتمخض بطبيعة الحال عن تغييرات جذرية تصعب معرفة أبعادها في المنطقة، ومن المفضل الانتظار حتى ذلك الوقت.
»وفي الادارة الاميركية من اعرب عن تخوفهم من ان تؤثر احداث فرض الحصار الجديد على عرفات، على اجراءاتهم في موضوع العراق«.
إذاً، فلسطين اولا ومن ثم العراق… وما يقوم به الجيش الاسرائيلي في رام الله قد يكون تمريناً بالذخيرة الحية تفيد منه قوات الاجتياح الاميركي غداً في بغداد. فالحرب الصليبية تتكامل مع حرب الابادة العنصرية في محاصرة العرب (والمسلمين) وإخضاعهم بالإذلال قبل قهرهم بالتدمير الشامل.
* * *
لن يستطيع سلاطين الهزيمة مواصلة التعامي عما يحصل لفلسطين وفيها أو الالتفات الى الناحية الأخرى، وإشغال الذات بالتشاور في ما بينهم واختيار »الفدائي« الذي يجرؤ على »التوسل« لدى الأميركيين لإنقاذ رئيس السلطة في فلسطين.
إن موقفهم مما يجري لفلسطين وفيها لا يكشف تواطؤهم عليها فحسب، بل هو يكشف أيضا ومسبقا تواطؤهم على العراق، وبالتالي على مجموع الأمة العربية.
لقد مضى وقت الكلام التضامني المفرَغ من أي مضمون. لذلك لم »نتفرج« على صورة أي مسؤول عربي وهو يهاتف ارييل شارون أو جورج بوش أو وزيره الحمامة كولن باول.
لقد سحقت الدبابات والجرافات الاسرائيلية خطابات التضامن اللفظي ورسائل التعاطف الشكلي وتوسلات الحكام المحرَجين والمتخوفين من أن يجرفهم بحر الدم الفلسطيني الذي يملأ عليهم غرف نومهم.
مع استمرار صمتهم الجبان تستطيع إسرائيل أن تؤكد للأميركيين ما لم يعودوا بحاجة الى إثباته: ان العروبة وهْمٌ، والاسلام أسطورة. لا خطر من العرب، فهم لا يجتمعون على أمر، وإذا ما اجتمعوا فعلى »مبادرة« لا توقف اجتياحا ولا تمنع حصارا على فلسطين أو غيرها، ولا ترد غزوا مقرَّرا للعراق أو غيره… ثم إنه لا وجود للمسلمين ككتلة: اضرب يتفرق الصف المجتمع بالحرج وليس بالرغبة أو بالموقف.
* * *
إذاً، فنحن نعيش حربا كاملة ضد »كل« العرب في فلسطين، في غياب العرب.
… ونحن نعيش مقدمات الحرب الثانية ضد »كل« العرب في العراق غداً، في غياب العرب أيضا.
لكن هذا الغياب »حضور« مثقل بالتواطؤ!
إن من تخلى عن فلسطين، القضية، الرمز، العلم والحلم والأمل بالتحرر والتحرير والتوحيد والتقدم الى غد أفضل، لن يهب لنجدة العراق الذي يسهل الفصل بين شعبه وبين حاكمه، وتبنّي التبرير الأميركي المعلَن من أنهم سيقتلون العراق لإنقاذه من ظالمه!
… ولا يبقى غير الأمل في الانتفاضة المتجددة، في المبارَكة فلسطين، التي لم توقفها في السابق »حرب الإبادة« المنهجية التي تناوب على قيادتها أعتى السفاحين في القيادة الاسرائيلية وحشية، ولن توقفها اليوم محاولات شارون أن يقطع عن فلسطين المياه ونور الشمس والهواء وصلات الرحم مع أهلها الغائبين بل المغيَّبين بالرعب من الاجتياح الأميركي القادم لإكمال ما بدأه الاسرائيلي، هم الذين تقاعسوا عن رده بوهم أن تلك هي طريق الخلاص فإذا الموت أمامهم، بعد، وليس خلفهم.
ومقدّر على فلسطين أن تفتدي أمتها بدمها

Exit mobile version