طلال سلمان

فلسطينيو لبنان ورقة سياسية قوية مقاومة

نظم مركز الدراسات الحقوقية للعالم العربي في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، ببيروت، وعلى امتداد يومي الجمعة والسبت الفائتين، ندوة متعددة الأصوات حول »الوسائل العملية لتطبيق الفقرة »ط« من الدستور« التي تمنع التوطين.
ولقد شكّلت هذه الندوة ذات الطابع العلمي الرصين نقلة نوعية من »الزجل السياسي« إلى النقاش الموضوعي حول قضية سياسية في مثل خطورة »التوطين«، ولو كاحتمال، الذي فرض نفسه أو فرضه الارتجال السياسي على اللبنانيين مؤخراً، ومع تفجر سيل التهديدات الإسرائيلية بالانسحاب المنفرد من الأرض المحتلة في لبنان.
هذه مساهمة منقحة ومزيدة لما قدم في إطار الندوة التي نتمنى أن ترفع مستوى النقاش حول الموضوع وتجعله أكثر صراحة ومن ثم أكثر اتصالاً بالسياسة وأقل تعبيراً عن العواطف والذكريات المرّة المتصلة بالماضي بقصد التبرؤ منه أو الانتقام له، وأبعد عن الطمع والانتهازية والرغبة في السبق بالحصول على ثمن أعلى لجلد الدب قبل اصطياده… مستقبلاً!
* * *
يمكن القول، ببساطة، إن اتفاق أوسلو هو الأب الشرعي لهذا الجدل المثار الآن حول »خطر التوطين« ولو كاحتمال.
كذلك لا بد من تسجيل الترابط الزمني بين البدء في ما يسمى بالمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية للاتفاق على اتفاق إطار لمفاوضات الحل النهائي وبين عاصفة النقاش حول احتمال الانسحاب الإسرائيلي من أرض لبنان المحتلة، ومن ثم هذه الحملة التي قد تبدو منظمة لفرض التوطين كبند أول على جدول أعمال الحكم وعلى اهتمامات اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين في لبنان، على حد سواء.
فاتفاق أوسلو لم يبدل موقع الفلسطينيين السياسي، فحسب، بل هو بدّل، إلى حد ما، هويتهم السياسية، وطبيعة روابطهم بسائر العرب، واللبنانيين منهم على وجه التحديد.
لقد نقل اتفاق أوسلو الفلسطينيين من أرض العمل العربي المشترك الى واقع الارتباط الكلي (في السياسة والاقتصاد والأمن) بالاحتلال الإسرائيلي عبر »سلطة الحكم الذاتي« التي استولدها على أنقاض منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها الوطني الذي كان يشكل نوعاً من الهوية السياسية للفلسطينيين جميعاً: مَن بقي في الأرض المحتلة منهم، ومَن لجأ مضطراً إلى دول الجوار (لبنان وسوريا والأردن والعراق ومصر)، ومَن شرّدته الحاجة أو الظروف السياسية إلى ديار الشتات البعيدة.
على أن سلطة الحكم الذاتي، وبرغم أنها ألغت الميثاق الوطني، وسلَّمت بأن تكون »تابعة« لسلطة الاحتلال الإسرائيلي لا تخرج عن إرادته، صوّرت نفسها على أنها تفرع من منظمة التحرير الفلسطينية فلم تقطع معها، بل استبقتها كغلالة تضفي عليها شيئا من »المشروعية«… وبرغم أنها »استقلت« عن مؤتمر مدريد بوصفه الإطار الناظم »للعملية السلمية« إلا أنها حاولت أن تستبقي رابطا معها عبر اللجان المتعددة والعودة للأخذ مبدئيا بقرارات مجلس الأمن الدولي حول أساس القضية.
وباختصار فإن اتفاق أوسلو، وبمعزل عن الرأي النهائي فيه، قد أحدث قطعا في السياق السياسي للقضية الفلسطينية إذ نقلها من أرض لقاء عربي ومنطلق للمواجهة العربية مع المشروع الصهيوني إلى اختراق إسرائيلي واسع للصف العربي أفقده وحدته ومنعته، وإلى حد كبير منطقه المفهوم والمقبول دوليا لارتكازه إلى قرارات الشرعية الدولية (الأمم المتحدة ومجلس الأمن).
وباختصار أيضا فإن خطر التوطين قد تأكدت جديته كاحتمال بعد اتفاق أوسلو الذي بالكاد وفّر المأوى تحت ظل الاحتلال الإسرائيلي »لفلسطينيي الداخل« ولقيادتهم التي تركتهم في »الخارج« والتحقت به.
ثم ان اتفاق أوسلو قد أكد الالتباس في »شخصية« منظمة التحرير، وفي وضع »الفلسطيني« عموما.
والفلسطيني ملتبس لأنه متعدد. وهو متعدد لأنه ممنوع من أن يكون واحدا: إنه في الداخل، وفي الخارج، وفي الشتات… وهو في منظمة التحرير، أو يجب أن يكون في هذا الاطار السياسي المعترف به عربيا ودوليا للشعب والقضية، ثم انه هو نفسه قد يكون في السلطة، ولو »كمعارض«، وقد يكون أيضا في حركة »فتح« التي شكّلت وما زالت تشكل، وبعد ثلاثين سنة أو يزيد، العماد الأساسي للمنظمة والسلطة (بشرطتها وأجهزتها الأمنية) وكذلك للتنظيمات الشعبية في المخيمات والصندوق و»المخصصات« وبدلات التفرغ… أي أنها مرجع أو مصدر السلطة والثروة والسلاح!
وبهذا التجريد يبدو ياسر عرفات هو »فتح« وهو »السلطة« وهو ما زال حتى الساعة منظمة التحرير الفلسطينية.. ولا شيء خارجه تماما!
* * *
نعود إلى ما يعنينا في لبنان مباشرة من اتفاق أوسلو واتصاله بتنامي الشعور بالخطر من احتمال توطين الفلسطينيين اللاجئين إليه فيه.
بعد اتفاق أوسلو تعاظم المناخ المعادي للفلسطينيين عموما، الذين خذلوا إخوانهم (اللبنانيين والسوريين) فتفرّدوا، وكان طبيعيا أن يتزايد الخوف منهم، أي من احتمال »توطينهم« في لبنان.. مع أنهم، في النتيجة، ضحايا اتفاق أوسلو الذي يُسقط عنهم ومنهم حق العودة، بينما هو يقطع صلة اللبنانيين والسوريين بالقضية مبقياً لهم منها اللاجئين والاحتلال الإسرائيلي.
وهكذا يتنامى خطر أن تتحول الوطنيتان المقاتلتان ضد دولة عنصرية إلى ما يشبه عنصريتين تتقاتلان في ما بينهما بما يخدم العنصرية الإسرائيلية وينهك لبنان وفلسطين.
ولتدارك مثل هذا الخطر فعلينا الاهتمام، سياسياً، بالوقائع الآتية:
أولاً ان الأوضاع المعيشية في المخيمات الفلسطينية غير إنسانية، خصوصا وأن خدمات وكالة غوث اللاجئين تتراجع يوما بعد يوم وتكاد تضمحل.
ثانياً ما زال الفلسطيني متعلقاً بوهم أو بحلم أن تستطيع قيادته (ممثلة بعرفات، إذ هو »الكل«) أن توفر له شيئا من الانتماء أو الهوية… مستقبلاً، إضافة إلى المخصصات التي تقيم أود الأسرة العديدة الأفراد!
ثالثاً ان الاضطهاد في لبنان لن يفتح أمام الفلسطيني أبواب فلسطين، لا فلسطين سلطة عرفات، ولا فلسطين الأصلية التي جعلها الصهاينة إسرائيل، ويحركون الفتن حاليا داخل من تبقى من الفلسطينيين فيها، كما في الناصرة، لدفع أبنائها إلى مغادرتها بحثا عن أي منفى…
رابعاً إن الفلسطينيين في لبنان، وبمعزل عن المعاني الإنسانية والعواطف، ورقة سياسية مهمة في يد لبنان في مواجهة إسرائيل.. إنها تكاد تعادل المقاومة كعنصر ضاغط على إسرائيل، فلماذا نتبرع بتحويلها الى عنصر ضغط علينا؟!
حتى في حديث الانسحاب المنفرد، أو الانسحاب من دون اتفاق، فإن الفلسطينيين يمكن أن يكونوا ورقة قوة، كما يمكن أن يتحولوا إذا ما تركناهم لعرفات الى ورقة ضاغطة على لبنان (ومعه سوريا).
وبرغم الصعوبة في استعادة فلسطينيي لبنان من خيمة الولاء لعرفات، باعتباره وهو الآن في »الداخل« ويلوح لهم بوهم الدولة آخر الآمال أو التمنيات أو الحلم بالعودة، فإن القطيعة معهم وحملات التشهير اليومية لن تزيدهم إلا تعلقاً به،
والخطورة في مثل هذا الانحياز إلى عرفات أنه، في ظل التداخل بين سلطته وبين سلطة الاحتلال الإسرائيلي، قد ينقل الشر الإسرائيلي (المخابرات بأشكالها) من الشريط المحتل الى مختلف مناطق التواجد الفلسطيني، عبر عملاء مشترين يعملون لتحويل النفور بين اللبنانيين والفلسطينيين الى عداء تستطيع معه »الموساد« و»الشين بيت« وأجهزة عرفات أن تلحق بنا ضررا عظيما، بينما لا يمكن أن نطال مصدر الضرر في تل أبيب.
إن الفلسطينيين في لبنان قضية وطنية من الدرجة الأولى،
وليس احتمال التجنيس إلا أبسط المخاطر، بالمقارنة مع خطورة الاختراق الإسرائيلي الذي سيستفيد قطعا من الخلل الفاضح في العلاقة بين اللبنانيين المغضبين وبين الفلسطينيين المحبطين في آمالهم بالتحرير ثم بحق العودة ثم بالتعويض، والذين لن يتبقّى أمامهم إذا حسن الحال غير اختيار المنفى الجديد.
إن التطنيش ليس سياسة،
أما القمع فهو نقيض السياسة
والافتراق في المصالح، أو في تقدير المصالح خطير، كذلك فإن توحيد المنظور إلى المصالح يبدو متعذرا في ظل الأجواء السائدة.
خامساً إن جيلاً كاملاً من فلسطينيي المخيمات يجد نفسه محاصرا باليأس.. فلا العامل اليدوي يجد فرصة عمل، ولا الطبيب ولا المهندس أو المحامي أو خريج الجامعة إجمالاً. ثم إن هذا الجيل يحاسب على أمور كان ضحيتها في البداية وهو ضحيتها مرة ثانية اليوم؛ إنه يحاسب مرة على إساءته إلى لبنان (قبل أن يولد.. أو في وقت كان فيه طفلاً رضيعاً)، ثم يحاسب مرة ثانية على وجوده في لبنان بينما هو لا يملك خيارا آخر… وبين العقوبتين يبقى عاطلاً عن العمل، ومتهماً بالعرفاتية، فيصبح منطقياً أن يذهب على نحو الخيار الوحيد المتاح والمفروض والمدفوع معاً.
سادساً إن القسوة في التعامل مع الفلسطيني، كإنسان، قبل أي معنى من معاني الأخوة ووحدة المصير، لن تخرجه من لبنان طالما لا خيار آخر مفتوح أمامه. لا هو سيرمي نفسه في البحر، ولا نحن سنرميه فيه، ولا بد من صيغة للتعايش معه في ظل أزمتنا المشتركة بأمل الوصول الى حل لها ذات يوم.
سابعاً لكن الحل لن يأتي سريعاً ولن يأتي وفق ما نشتهي، ويجب أن نتذكر أن ضحيتنا الذي يفترض البعض أننا كنا ضحيته، هو موضوع الصفقة الدولية المحكي عنها وعنوانها، والتي سوف ترتكز، ولو بنسبة ما، على مبدأ حق العودة أو التعويض.
ولا تكفي الشرطة ولا النيابات العامة سيما العسكرية منها مرجعاً لشعب ذي قضية شغلت العالم، وما زالت تشغله، بعد نصف قرن من مأساته في وطنه.
ولا يحل الحقد مشكلة العلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين،
كذلك لا يحلها الهرب إلى العجز، وتأجيل التفكير فيها،
وبالتأكيد فلن يحلها الاعتماد على »الدول« فهي ليست جمعيات خيرية… والدول المقصودة هي بالتحديد تلك المعنية بأمن إسرائيل وباستقرارها، ومشاريع الحلول التي قد تعتمدها هي تلك التي تناسب إسرائيل وليس لبنان أو الفلسطينيين بطبيعة الحال.
والخلاصة أن لا حل.. أقله في الأفق.
فالحوار بين لبنان والفلسطينيين فيه متعذر،
والحوار بين لبنان والسلطة الفلسطينية شبه مستحيل، أقله حتى إشعار آخر، خصوصا وأن الحدود بينها وبين الإسرائيلي غير واضحة.
والدول ذات القرار قد تسألنا، وقد تستكشف، وقد تطرح اقتراحات، ولكنها ستفرض علينا ما تقرره، إذا استمرت حالة ضعفنا وتفككنا كعرب وتوزعنا بين أكثرية مهرولة وراء السراب، وأقلية صامدة تفتقد القدرة على النصر.
ولا بد من حل. ولا بد من قاعدة للحوار والتعامل مع هذه القضية غير المياومة وغير التدابير الأمنية وغير التمني بأن يفرض علينا أي حل، وأن يكون ثمنه مجزياً وإضراره محمولة.
وهذه كلها خارج السياسة.
ولعل المناقشة الصريحة والعلنية تشكل بداية لما يمكن اعتباره »خطوة أولى على طريق الحل«،
ولعل في ما اقترحه صاحب العقل السياسي الممتاز فؤاد بطرس المدخل إلى هذا الاحتمال. والأهم: ان نسعى إلى حل من أجلنا ومن أجل الفلسطينيين لا إلى حل ضدهم، وهو في هذه الحالة لن يكون لخيرنا..
طلال سلمان

Exit mobile version