طلال سلمان

فشل ممنوع اكملوا

مع إعلان يوم الخميس الواقع فيه الثاني من آذار 2006 موعداً رسمياً لمؤتمر الحوار الوطني، في بيروت، وضع اللبنانيون أيديهم على قلوبهم تخوفاً من أن تنسف بعض المواقف المتطرفة، أو بعض التصرفات الخاطئة في اللحظات الأخيرة هذا الموعد، أو أن تنسف المؤتمر ذاته مباشرة بعد انعقاده، وربما في جلسته الأولى..
وعندما نجحت »مغامرة« نبيه بري فحضر الأطراف المدعوون جميعاً جلسة الافتتاح في قلب المجلس النيابي، وشق الحوار طريقه بين المختلفين على مسائل بعضها جوهري وبعضها الآخر مفتعل وبقصد مقصود للابتزاز السياسي، تنفس اللبنانيون الصعداء، ورحبوا بهذا اللقاء الحاشد لقيادات لا يشبه أحدهم الآخر.
بقي هناك شيء من التخوّف يرفرف من فوق الجلسات التي انتظمت في الأيام الثلاثة الأولى، برغم غياب من غاب بذريعة غير مستساغة… فالتجارب علّمت اللبنانيين أن يحذروا من التصرفات الخاطئة بالقصد أو بسوء التقدير أو بزلات اللسان التي يصعب مسح آثارها حتى بعد الاعتذار عنها…
ليل الاثنين، والمناقشات تتواصل في سياقها، وقد أضفى التلاقي المتواصل بين قيادات لا يعرف بعضها البعض الآخر، أو كانت في ما بينها خصومة أو جفاء أو افتراق في الأهداف لا تجبّه المجاملات، حصل ما كان يبرّر الخوف على المؤتمر ونتائجه المرجوة…
حوّم شبح الفشل من فوق المؤتمرين، ومعه كل المخاطر التي كان يتحسّب لها المواطنون الذين عقدوا الآمال العراض على هذا المؤتمر الاستثنائي في زمانه ومكانه وحضوره، والذي كان مؤهلاً لأن يسجل السابقة المبهجة: إن هؤلاء القياديين قادرون على تجاوز خلافاتهم بقوة إيمانهم بوطنهم وبحرصهم على هويته واستقلاله ووحدة شعبه… تواكبهم، ولو من بعيد، رعاية عربية، و»هدنة« سخت بها »الدول«، ربما لامتحان أهليتهم، أو ربما لاستثمار خلافهم إذا ما تفجّر فأسقط مع المؤتمر الآمال المعلقة عليه وفتح الباب لمخاطر غير محدودة.
التفت اللبنانيون أول ما التفتوا إلى السيد حسن نصر الله، الذي قَبِل أن يشارك شخصياً، وأن يذهب إلى المؤتمر »بعمامته وعباءته« برغم اعتراض جدي من قيادة المقاومة، ليس بدافع الحرص على أمنه الشخصي فحسب، بل قبل ذلك وبعده الحرص على موقعه المميّز الذي يبقيه خارج دائرة السياسيين المحترفين ويجنّبه الدخول معهم في مساجلات أو مماحكات، لا سيما إذا ما انتهى المؤتمر إلى الفشل، ناهيك عن أن ينجح بعض محترفي الكلام في استدراجه إلى مهاترات لا طائل تحتها، وكل ذلك قد يمسّ بالضرر »صورته« ذات الوهج وذات الاحترام الاستثنائي في مختلف الديار الناطقة بالعربية ومعها ديار الإسلام، مع تقدير خاص على المستوى الدولي (حتى لدى مَن يرى في المقاومة »إرهاباً« ويسمّي المجاهدين ميليشيا)..
التفتوا كذلك إلى سعد الحريري الذي يعتبر اللبنانيون أن هذا المؤتمر فرصته لتأكيد جدارته بالموقع الذي خصوه به تقديراً لوالده الشهيد الذي فقدوا بجريمة اغتياله أحد أركان وحدتهم الوطنية، فضلاً عن دوره في إعادة الإعمار فور انتهاء الحرب، بل وبينما كانت بعض جبهاتها ما تزال مشتعلة.
وكان لا بد أن يستذكروا دور رفيق الحريري، المميّز حقيقة ولو من موقع غير المسؤول، بالمعنى الرسمي للكلمة، في مؤتمرات الحوار الوطني التي توالى انعقادها خارج لبنان، حتى انتهت إلى وثيقة الوفاق الوطني، وقد كان واحداً من أبطالها المستترين في الطائف.
استذكروا مؤتمر جنيف للحوار الوطني في جنيف (31/10/1983)، والذي كان شرط نجاحه إجبار مهندس اتفاق 17 أيار الشهير على إلغائه.
واستذكروا مؤتمر لوزان للحوار الوطني (12/3/1984) الذي أفشله سوء القراءة السياسية للتحوّلات في لبنان، وللظروف المحيطة، سورياً على وجه الخصوص وعربياً ومن ثم دولياً.. وهي
الظروف التي فرضت انعقاده وإن لم تؤمّن له شروط النجاح لأن بعض »فرسانه« لم يكن يحسن القراءة..
وكانت نتيجة الفشل كارثية على لبنان. وبديهي أن الطرف المتسبّب في إفشاله قد تحمل في نظر اللبنانيين وسائر العرب المسؤولية التاريخية عن تجدد الحرب الأهلية التي سرعان ما توالد منها مسلسل الفتن التي تعدت إطارها العام بين الطوائف لتدخل إلى قلب كل طائفة فتجعل الأخ في مواجهة أخيه بالسلاح.
… ولقد ظلت آثار فشل الحوار تتوالد مأساوية، فخسر الشعب وحدته وخسر معها دولته، وإن بقي رئيسها في قصره يستمتع سعيداً بأيامه ولياليه، على دوي المدافع، حتى إذا حان موعد الانتخابات الرئاسية دستورياً تعاون مع المستفيدين من الحرب فعطلها ممهداً لحرب جديدة سينتج عنها المؤتمر الثالث للحوار الوطني في الطائف، وبرعاية عربية، تحت مظلة دولية..
ومن موقع »الشاهد«، وقد شاركت كصحافي في »تغطية« هذه المؤتمرات جميعاً، أستطيع أن أقول براحة ضمير إن »الشيخ رفيق الحريري« كان يبذل الكثير من جهده ومن دالّته بقوة صداقاته الشخصية، وكذلك من ماله حين كانت تقضي الحاجة، لكي يصل بالمختلفين إلى حل وسط يؤمّن اندفاع كل من هذه المؤتمرات نحو الخاتمة المرجوة.
على أن رفيق الحريري لم يكن بلا موقف. كان وسيطاً بموقف محدّد وقاطع في وضوحه: هو مع الوحدة الوطنية، هو مع عروبة لبنان، هو مع مقاومة الاحتلال حتى إجلائه عن أرض الوطن، وهو مع إعادة بناء الدولة الحديثة على قواعد غير التي تواطأ على إقامتها ساسة لبنان بعد الاستقلال، والتي كانت تحاول »تحييد« لبنان عن هويته وبالتالي عن محيطه، وهي التي كلفت لبنان غالياً بشهادة الحروب التي أحرقت أرضه وأبناءه وأحلام جيل أو جيلين من شبابه.
* * *
لا بد أن يستأنف مؤتمر الحوار الوطني أعماله يوم الاثنين المقبل..
الفشل ممنوع، لأن الفشل ولادة دمار وحرب مفتوحة بين الأخوة.
وعلى الأكثر تحسساً بالمسؤولية التاريخية أن يتحمّلوا دورهم الإنقاذي، ولو على حساب شيء من الشعور بالظلامة.
… وأخيراً لا بد من إطلاق النداء: أينكم يا عرب لا تنجدون بلدكم الجميل، ولو رغم أنف بعض قيادييه الذين قد يخطئون الحساب أو تبهرهم قوة الأجنبي فيهون عليهم أهلهم، أو قد تأخذهم الضغينة إلى الغلط وتصعب عليهم العودة عنه إلا بسلاسل مذهبة.

Exit mobile version