لم يسأل أحد العرب رأيهم، ولن يتأثر أحد برأيهم في التغيير الذي حصل في قمة السلطة في الولايات المتحدة الاميركية فنقلها من »الديموقراطيين« الى »الجمهوريين«، خصوصا ان القضايا العربية جميعا لم تكن حاضرة في برنامج المتنافسين، اللهم إلا ما يتصل بالنفط وباستمرار التفوق الاسرائيلي المطلق على العرب مجتمعين.
وبعيدا عن الأوهام التي قد تصوّر جورج بوش الابن »صديقا« للعرب، أو لبعضهم، ولو من باب المصالح النفطية، والاعتراف بالفضل في تحرير الكويت وتأمين أقطار الجزيرة والخليج كلها من مخاطر صدام حسين ومغامراته القاتلة، فمن المؤكد أنه ليس بين العرب من يعتبر أنه خسر »صديقا« بخروج بيل كلينتون من البيت الأبيض.
فعلى امتداد ثماني سنوات طويلة، وعبر محاولات حثيثة لم تتوقف يوماً، وتضمنت عشرات اللقاءات الثنائية، مع مختلف القياديين الاسرائيليين والعرب، وعبر زيارات عدة للمنطقة (بينها هبوطان مفاجئان (!!) في شرم الشيخ) أمكن لهذا الرئيس الأميركي الذي لم يكن يعرف ما يكفي عن الصراع العربي الاسرائيلي، أن ينتزع للإسرائيليين مكاسب ثمينة على حساب الموضوع الاصلي للصراع: حق الشعب الفلسطيني في »بعض« أرضه، وفي إقامة »ميني دولة« محاصرة ومطوقة بالقرار الاسرائيلي، وتشمل ممرا الى بعض القدس ومن أجل الصلاة في الحرم القدسي في ظل بنادق الحراس الذين يحمون »يهودية« جبل الهيكل.
ومع أن كلينتون لم يحظ بجائزة نوبل للسلام نتيجة نجاحه في تصفية القضية الفلسطينية، إلا أنه يستطيع الادعاء أنه نجح في تقزيمها حتى غدت مشكلة داخلية اسرائيلية من طبيعة أمنية، أساسا، وفي تفتيتها حتى صارت مجموعة من التفاصيل المتناثرة لم يستطع بحر من دم الاستشهاد الذي قدمه فتية الانتفاضة إعادتها الى صورتها الاصلية المتوهجة التي كانت تنزلها في مكانة التقديس من نفوس العرب وتستقطب لها تأييدا واسعا في الرأي العام العالمي.
فمن اتفاق اوسلو الهزيل الى مشروع الاتفاق المرجأ في »كمب ديفيد 2«، وانتهاءً »بالمقترحات« التي أراد بها خفض سقف التوقعات التي فتحت لها الانتفاضة الأبواب وسيعة، من جديد، إن على المستوى العربي او على المستوى الاسلامي، كان بيل كلينتون »يناضل« بضراوة، كاد يتفوق بها على القيادات الاسرائيلية، لتأكيد »عزلة« الفلسطيني عن سائر العرب، بداية، ثم لتطويعه بحيث لا يستطيع رفض الحل الهزيل الذي سيساومه عليه من بعد ايهود باراك لينتهي بتشريع سلخ الفلسطيني عن أرضه بشطب حق العودة، وسلخ الارض الفلسطينية عن شعبها بسلخ المستوطنات والقدس الكبرى وبعض مساحة غزة من أصل »الوطن المحتل«!
أما مع سوريا فقد كان سلوك بيل كلينتون أكثر صغارة، إذ إنه أعطى في الشكل الكثير ليحاول من بعد ان يأخذ في المضمون، فكانت قمة الخديعة في جنيف التي ذهب إليها الرئيس الراحل حافظ الأسد متشككا وعاد منها ممرورا ومستهجنا تورط »رئيس الكون« في حيلة إسرائيلية رخيصة لا يمكن أن تنطلي على سياسي مبتدئ فكيف بقائد تاريخي عرف بدهائه وبدقة قراءته للتحولات كما ببراعته الفائقة كمفاوض فضلا عن صلابته في الصمود تاركا ما لا يمكن ان يحققه في عهدة الاجيال الجديدة حتى لا يلزمها بما قد يفرض ضعف الحاضر قبوله فتتم بذلك مصادرة المستقبل.
وأما لبنان فليس في ذاكرة مواطنيه ذكرى طيبة عن هذا الرئيس الاميركي الذي ظل يتجاهل وحشية الاعتداءات والغارات التي شنها الاحتلال الاسرائيلي، طوال عهده، على هذا البلد الصغير، دون أن يسمع من كلينتون كلمة إدانة، فضلا عن بذل الجهد »لإقناع« تل أبيب بتنفيذ القرار الدولي 425… فلما جلا جيش الاحتلال كان همّ »الصديق الكبير« تأمين الهدوء على الحدود، وكأن لبنان هو من كان يهدد السلامة والسلام في إسرائيل!
ربما لهذا وغيره كثير يعطي خروج كلينتون وإدارته من البيت الابيض العرب »فرصة تنفس«. لقد انزاح الكابوس الاسرائيلي الذي كان أقسى عليهم في واشنطن منه من »عدوهم« مباشرة.
والبعض يرى أن البيت الابيض قد استعاد »صورته« الاميركية بعدما كان قد تحول إلى مركز نفوذ اسرائيلي بالمطلق، بسياساته كما برجال إدارته والنساء وجميلتهن مادلين أولبرايت!
لكن المعادلة ستظل ظالمة وغير عملية ما دامت واشنطن تتعامل مع هذه المنطقة الهائلة الامتداد، والمهيضة الجناح، والمضيعة طريقها الى ذاتها، وكأنها تتلخص في ضمان استمرار التفوق الاسرائيلي على مجموع العرب وضمان استمرار تدفق النفط بخيراته الى خارج السياسة العربية وخارج القدرة على استثماره عربياً.
ولا يمكن مطالبة جورج بوش بأن يقوم بالواجب الذي يقصر في أدائه أهل القضية، كما لا يعني خروج كلينتون المنحاز الى اسرائيل ان يكون بوش منحازا بالضرورة الى العرب، الذين لم يصدر عنهم ما يفيد انهم منحازون الى انفسهم بالقدر الكافي.