طلال سلمان

فرح تحت احتلال

ما زال الفرح تحت الاحتلال.
لقد أخلى عسكر الاحتلال الإسرائيلي بعض المدن، بعض الأرض، بعض المساحة السياسية من أجل »سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية«، لكن »فلسطين« لم تزل مغيبة وممنوعة من الظهور ومن التجول، وممنوع اسمها الصريح من التداول.
يحتشد الجمهور في الساحات. يرفع الاعلام والزينات. وقد ينفخ متحمس في مزمار فيرقص البعض، وقد تأخذ البعض الآخر الحماسة الى الدبكة، وقد تزغرد النسوة، لكن الكل يراعي ألا يزعج »السيد« أو يستفزه بحركة أو إشارة أو بكلمة نابية مثل »التحرير« أو »القدس« أو »السيادة« أو »الدولة الفلسطينية«، ناهيك بكلمات فاحشة مثل »العروبة« أو الانتماء القومي أو الارتباط المصيري مع سائر العرب..
الفرح استفزاز مرشح لأن يصنف إرهابù. عليك أن تفرح بصوت خفيض وبأدب جم. افرح بشيء من الخجل. حاذر أن يسمع الاسرائيلي صوت ابتهاجك فينقص من حقك في الهواء اللازم للتنفس.
خرج الجند، لكن الاحتلال باق.
هل الاحتلال مجرد جنود وحصون ودبابات وحواجز وقيود على التجول؟!
ذلك شكل بائد من أشكال الاحتلال.
المهم: لمن القرار، في السياسة كما في الاقتصاد، في احتياجات اليوم وفي ضرورات الغد؟
* * *
بيت لحم تستعيد ذاتها، اسمها، هويتها، والمهد، وترتفع الأعلام والزينات والأشجار المنوّرة احتفاءً بعيد ميلاد المسيح عيسى بن مريم.
يخرج الاحتلال بالسيارة، وتجيء السلطة بطائرة هليكوبتر، وتدق الأجراس، ويتدفق أبناء الأرض إلى بيت لحم، عبر »الفتحات« المتروكة لهم في جدار السيطرة المحكمة.
يقنعون بالفرحة الناقصة، هؤلاء القابعون في بئر المأساة، يخوضون في دمائهم ويقدمون أرواحهم رخيصة من أجل أن يكونوا هم هم بأسمائهم، بتاريخهم، بحقهم، وفي أرضهم.
العيد في الطريق. العيد في الخارج بعد. لا تتسع الهليكوبتر للقيادة والعيد معù.
عمر المدينة أربعة آلاف سنة، وعمر الكيان الصهيوني أقل قليلاً من نصف قرن، و»عمر« الاحتلال 28 سنة… أين تذهب كل تلك الآلاف من السنوات؟! من يستطيع أن يشطبها أو يلغيها وكأنها لم تكن، أو كأن التاريخ لم يبدأ إلا مع وصول المهاجرين اليهود الأوروبيين إلى الأرض التي لم تعرفهم ولم يعرفوها إلا عبر الأساطير والخرافة وحراب الاستيطان وعمليات الإبادة والطرد المنظمة لأصحاب الأرض الذين ظلوا دائمù أقوى من الخرافة والأسطورة والشهادات المزورة؟!
* * *
»بيت ايلو لاهاما«. هكذا اسمها في الألواح المكتشفة في تل العمارنة.
بيت إله الطعام والقوت عند الكنعانيين الذين بنوها.
أما »لحم« فهي بيت الخبز عند الآراميين.
والرحالة الفرنسي فولني تحقق عند زيارته المدينة من أن جميع أهلها »من الحزب اليمني«.
أما البطريرك الأرثوذكسي في الأراضي المحتلة، ديودوروس الأول، فقد وجد نفسه في التاريخ، أو أنه أحب أن يستعيد فصلاً خالدù منه، حين استقبل رئيس سلطة الحكم الذاتي ياسر عرفات، أمس الأول، في بيت لحم، ليسلمه سلطة الإشراف على الكنائس في القدس.
قال البطريرك ديودوروس: »أنا، وريث سوفرونيوس، أسلمها الى وريث عمر بن الخطاب«.
سنة 636 للميلاد، دخل ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب، بيت لحم، في سنة الفتح، وأعطى الأمان لأهلها، وقد حضرته الصلاة وهو في كنيسة المهد، فصلى داخل الكنيسة عند الحنية القبلية، وكتب للبطريرك سجلاً ألا يصلي في هذا الموضع من المسلمين إلا رجل واحد بعد رجل. (الموسوعة الفلسطينية).
* * *
التاريخ لا يعيد نفسه. التاريخ يأتي من البعيد ويدخله من الناس القادرون.
لا البطريرك هو البطريرك، ولا السنة هي سنة الفتح، ولا عرفات هو عمر بن الخطاب.
لا شيء من اليوم يشبه البارحة.
لذا تظل الفرحة ناقصة، لعلها تقبع خلف المسافة الفاصلة بين الأمس واليوم.
مع ذلك، عليك أن تحفظ الأمل وتعمل من أجل تحقيقه. لربما في السنة المقبلة، في الجيل المقبل، في القرن المقبل، يكتمل الميلاد، ويمكن إطلاق الفرح الحبيس من سجنه الضيق.
ومن القدس يجيء الفرح،
وليت الذين تلاقوا في السينودس من أجل لبنان قد تذكروا بيت لحم والقدس، إذù لكانوا قالوا كلامù أنفع للناس وأقدر على تقريب موعد العيد المحتجز الآن خلف الحواجز الاسرائيلية في الأرض اللبنانية المحتلة.
وكل عام وأنتم بخير.

Exit mobile version