طلال سلمان

فذلكة تنابذ ارقام نيابيا

من حظ نوابنا الأكارم أن لبنان ليس أندونيسيا، وأن »جماهيرنا« تبدو أكثر تعقلاً من تلك الموجات البشرية التي أطلقتها عصبية الرئيس الذي يُقاد لكي يقود عبد الرحمن عبد الواحد، التي اجتاحت المجلس التشريعي هناك لتعبّر عن رأيها في نوابها… ديموقراطياً!
فأما »جماهيرنا« فقد باتت محصَّنة ضد مفاعيل جلسات المناقشة العامة، وبالذات منها جلسات المسامرة حول الموازنة، بفذلكتها الفلسفية العميقة، وأرقامها الفلكية الدقيقة. لذا فقد يُفتح التلفزيون على المشهد السنوي المكرر والمعاد، ولكن الصورة تبقى بلا نظارة، والصوت يلعلع ولا من يستمع وليس من صدى: هو كلام في الهواء.
ذلك أن الكل بات يدرك، بالفطرة قبل الخبرة، أن كل الكلام الذي سيطلقه المعنيون على اختلاف تلاوينهم، أي الحكومة ومعارضاتها الموالية أو موالاتها المعارضة أو البين بين، سيظل خارج همومهم، وخارج دائرة التأثير الفعلي على كلفة حياتهم، فلا هو سيزيد من اطمئنانهم إلى ثبات عملتهم، ولا هو سيفتح أمامهم أبواب الأمل في انفراجات تزيد من فرص العمل أو تقدر على استقدام رساميل واستثمارات جدية تحرك دورة الإنتاج فتوقف سيل هجرة الأدمغة وتوفر السبل لربط الناس بأرضهم بالخبز والدخل وليس بقوة العاطفة والولاء الوطني فحسب.
أما سوء حظ نوابنا الأكارم فيتمثل في أن الأزمة العامة التي تثقل على البلاد والعباد، قد بلغت الذروة في خطورتها، وفي انعكاساتها على مختلف مجالات حياتهم، وفي تداعياتها السياسية التي تبدأ بموجبات الصراع العربي الإسرائيلي، ومزارع شبعا مجرد عنوان فيها، ولا تنتهي بالعجز عن دمج فروع الجامعة اللبنانية، عدا عن العلاقات بين الرؤساء، والتضامن الوزاري الذي وصلت أصداء اختلاله إلى قلب المجلس، فكاد ينكشف ما خفي أو ما تقضي الضرورة ببقائه مخفياً حتى لا ينقلب الإحباط يأساً وطنياً عاماً من المستقبل إضافة إلى الحاضر.
الهموم كبيرة، الكلمات كثيرة، لكن الأفكار فقيرة، هذا إذا كانت هناك أفكار أصلاً. وفي ما عدا بعض المحترمين من النواب الذين يواصلون التعاطي الجدي مع الهم الوطني العام ومع الأزمة الاقتصادية تحديداً، فإن جلسات المناقشة كثيراً ما تحولت الى جلسات سمر، والمصائب صارت موضوعات للتندر، و»القفشات« طغت على التحليل.
أما الأرقام فحدّث عنها ولا حرج، إذ يمكن الجزم ان الدقة نادراً ما حضرت، إذ غالباً ما كانت ترمى جزافاً فيجيء الرد رصيناً في شكله لكنه من الطبيعة ذاتها في مضمونه… فجهل المُحاكِم المُحاسِب نعمة للحاكم، والأمية بالأرقام متفشية الى حد أن القلة القليلة هي تلك التي تتمسك برقم توصلت اليه، بالدراسة أو بالاستنتاج.
الأزمة ثقيلة، وأخطر من ان يستطيع المجلس استيعابها بالجدية المطلوبة، لذا تصبح النوادر و»القفشات« و»النكات اللفظية« مهارب ممتازة للأطراف جميعاً.
لا المجلس مؤسسة سياسية مكتملة النمو، تستطيع أو تقدر على اداء مهمتها في المتابعة والرقابة والمحاسبة،
ولا النواب يصدقون انهم يملكون، فعلاً، الحق في محاسبة الحكم، من داخل الحرص على الحكم، ولربما تستشعر أكثريتهم انهم غير مؤهلين موضوعياً لاقتراح الحلول التي قصرت الحكومة عن صياغتها،
ولا النواب كتل سياسية ببرامج مدروسة هي حصيلة ابحاث ميدانية جدية، أو دراسات اقتصادية رصينة، سبق ان طُرحت على الناس عبر مناقشات موسعة، توفر البدائل أو الحلول المطلوبة بدل ان تكتفي بالتشهير أو »التنمير«.
المشكلة أن نعمة التلفزيون قابلة للتحول الى نقمة: إذ كثيراً ما كشفت الكاميرا فضائح النقاش العبثي، وعدم جدية الأطراف المتواجهة في حلبة »الرأي العام«!.
يعرف المتحدث ان كلامه خارج أي حساب، وان الذين من حوله لا يسمعون، فإذا ما سمعوا هزوا رؤوسهم هزة العارف بالهدف من الكلام وبضياع الصدى.
يتحدث النائب بحكم الواجب وبحكم المناسبة السعيدة التي سمحت له بأن يطل فيها عبر الشاشات الملونة، والتي ربما توصله الفضائيات الى جمهوره في »ديار الشتات«.
بعض النواب يعارضون الحكومة ثم يستدركون فينافقون رئيسها، وبعضهم يعارض وعينه على رئيس المجلس، فان لمح على وجهه امتعاضا بدل الخاتمة لتجيء مرضية، فيظل مَرضيا عنه وعليه.
اما الحكومة فتسمع ولا تسمع. ومن كل هذا الحشد لا يهمها اكثر من بضعة نواب تعرف ان لكلامهم صدى في الشارع. أما الباقون فأقواهم نصف معارض، وأضعفهم نصف موال!
انها مناسبة فولكلورية موسمية، مثلها مثل مهرجانات بعلبك ومهرجانات بيت الدين ومهرجانات البستان، مع فارق في المستوى وفي المتعة: هناك للابداع الفني والموسيقي والمسرحي، وهنا لتقديم صورة الوضع السياسي بالالوان الطبيعية، وهي صورة لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا!
غداً، تنتهي المناقشات، ويعود النواب الى عاداتهم اليومية وقد اطمأنوا الى انهم قد أدوا قسطهم للعلى، وتعود الحكومة لتعالج اختلالها في مجلس الوزراء، وتعود الخلافات بين الرؤساء لتحتل صدارة الصحف ونشرات الاخبار.
لكن الازمة لن تجد مكانا تذهب اليه، بل ستبقى في الشارع، ولعلها ستغدو اكثر حدة مع تهاوي المجلس في مناقشاته دون مضاعفاتها، ومع اطلالة الاشكالات الرئاسية مرة اخرى كمصدر جديد للقلق. فإذا كان الكل، مجتمعين، قد عجزوا عن ابتداع الحلول المطلوبة بإلحاح، فكيف بهم اذا ما افترقوا وتنابذوا… بالارقام؟!
هل من الضروري، مرة اخرى، استعادة المشهد الأندونيسي؟!

Exit mobile version