طلال سلمان

فتى متن اغر ليكن وداعة يوما وحدة

من الإنصاف الشهادة لشعب لبنان كله بأن وجدانه ما زال حياً، فقد هزته جريمة اغتيال فتى المتن الأغر بيار أمين الجميل هزاً عنيفاً ونبهته إلى أن المقصود بالقتل عبره هو السلم الأهلي في لبنان كله، وأن الرصاصات التي أطلقت من رشاشات مزودة بكواتم للصوت، يُراد لها أن تدوي في مختلف أرجاء لبنان، وأن تستدرج ردود فعل غاضبة أو هائجة يمكن أن تأخذها فورة الدم إلى الغلط الذي يستدرج الغلط، فتكون فتنة لا تردها اللعنة على من أيقظها!
منذ اللحظة التي عرف فيها اللبنانيون بالجريمة استشعروا خطراً عظيماً يتهددهم جميعاً، ونبهتهم أنهم مستهدفون بها كلهم، وأن القتلة أرادوا منها أن تكون شرارة تشعل النار في هشيم أحقادهم وعصبياتهم وانحيازاتهم التي كادت تجرفهم بعيداً عن التمييز بين الصح والخطأ الفادح… خصوصاً أن المستعدين للنفخ في النار كثر ولديهم أغراضهم ومخططاتهم التي يصعب إنجازها إلا بالفتنة.
ولقد ألزم جو التهيّب أمام دماء الوزير النائب الشاب المغتال ظلماً وعدواناً، الجميع قادة تيارات وزعماء أحزاب ورجال سياسة بالتعقل، خصوصاً أن الأب المكلوم فؤاده قد دعا لأن تكون ليلة الوداع مكرسة للصلاة، وتوجه إلى الجمهور المفجوع والملتهب غضباً طالباً منه الهدوء والتروي، معتبراً نجله شهيداً للوحدة الوطنية وقرباناً لاستقرار لبنان.
أما في اليوم التالي فقد بدأت محاولات استغلال الدم المسفوح ظلماً في الأغراض السياسية والمصالح المباشرة لقوى وتيارات أعطت نفسها موقع ولي الدم لتوجه من ثم الاتهامات، بل الإدانات في بعض التصريحات، لقوى وتيارات قد تكون منافسة لها، ولكنها بالتأكيد شريكة في الحزن وفي الضرر العام الذي أصاب البلاد بمؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأساساً في أمنها وفي شروط سلامتها الوطنية.
لم يراع أصحاب الأغراض أحزان العائلة المفجوعة بفتاها الأغر بل اندفعوا في توظيف الجريمة البشعة لتكريس بل لتعميق الانقسام والفرز بين اللبنانيين حتى جعلت بعضهم في جانب الضحية وفرضت على بعضهم الآخر أو هي ألزمتهم بموقع شركاء الجناة أو حماتهم والمتسترين على الجريمة!
ولم يكن ذلك يليق بالشهادة والشهيد أو بمسحة الحزن النبيل وقد غطت لبنان جميعاً، وهكذا تعذر على قوى شعبية أساسية أن تشارك في المأتم الوطني، وفرض عليها حصار بالشبهة المغرضة، ليجري ابتزازها سياسياً في لعبة السلطة!
ثم جاء الإسناد الخارجي ثقيلاً وكثيفاً، من فوق رؤوس أهل الفقيد، ليفرز اللبنانيين طرفين متواجهين، في حين أنهم جميعاً في موقع الضحية.
كل العالم، بشرقه وغربه، بعربه وعجمه، بالملوك والرؤساء والوزراء والكبراء، يتقدمهم البابا بندكت السادس عشر، أظهروا قلقاً عظيماً على وحدة لبنان، واندفع بعضهم إلى التحذير العلني من التقسيم، وأجمعوا على تنبيه اللبنانيين إلى مخاطر الفتنة التي تسعى إليهم، بضغط المصالح المتضاربة، أو التي يمكن أن يجرهم إليها ضغط الغرائز والأحقاد المتوالدة من ذاتها أو المتزايدة بضغط التهييج المقصود والإثارة ذات الوظائف السياسية المتعددة.
… حتى إسرائيل، وبلسان أبطال حربها على لبنان التي لما تتوقف تماماً، (حتى بعد مئة يوم، بدليل الاختراق الجوي اليومي لفضائه)، تظهر خشية غير مسبوقة على استقرار لبنان وحرصاً يتجاوز الخيال على حياة اللبنانيين الذين بالكاد قد فرغوا من دفن ضحايا مجازرها الجماعية، وجلهم من الأطفال والنساء والشيوخ والعجائز… أما من تودي بهم قنابلها العنقودية كل يوم، فما زالوا يتساقطون، في حين تموت مواسم الزيتون والبرتقال والحمضيات عموماً على أمها لتعذر قطافها في البساتين المزروعة بالموت الإسرائيلي الذي لم يوفر سلاحاً ممنوعاً، بما في ذلك اليورانيوم المنضب أو المخصب… في انتظار أن ينبئنا الضحايا!
لقد أمضى الرئيس الأميركي جورج بوش وقتاً طويلاً على الهاتف مع لبنان، وكذلك العديد من المسؤولين الغربيين والعرب… وهذه عواطف يشكرون عليها، ولكن ماذا تراهم قدموا للبنانيين غير تحريضهم على الانقسام والجهر بمناصرة بعضهم ضد البعض الآخر، مما يقرّب نار الفتنة من جميعهم؟!
اليوم، وإذ يشيّع لبنان شهيده بيار أمين الجميل في مأتم شعبي مهيب، نتمنى أن يتنبه الجميع إلى أنه مستحيل على اللبنانيين أن ينقسموا بين منتصر بالموت وبين مهزوم بالقتل، وأن وحدتهم الوطنية هي ضمان حياتهم معاً، أمس واليوم وغداً وحتى آخر الزمان.
ليكن يوم وداع بيار أمين الجميل الذي لم يمتّع بالشباب ، بكل الحزن الذي زرعه في قلوب اللبنانيين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية يوماً للوحدة… حماية لدولته ولشعبه المكلوم والذي آن له أن يترجل عن صليب عذابه المفتوح.

Exit mobile version