طلال سلمان

فتنة لا تصنع عدالة واهل نظام عربي هم شهود زور

أنجزت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ما عجزت عنه دولة العدو الإسرائيلي:
÷ فهي قد ضربت وحدة الشعب ووزعته على الطوائف والمذاهب مقيمة بين كل «رعية» والأخرى حواجز من الكراهية والأحقاد التي يمكنها أن تستهلك أجيالاً قادمة إضافة إلى الجيل الراهن.
÷ ثم إنها قد شلّت الدولة، الضعيفة أصلاً، فصيّرتها متهالكة، تكاد تعجز عن حماية مؤسساتها وإداراتها، بدءاً من قضائها الذي تمت إدانته بالعجز عن أداء دوره، وصولاً إلى السلطة التنفيذية التي باتت تركَّب بطريقة «توافقية» تذهب بقدرتها على القرار، مما يعطل ـ استطراداً ـ السلطة التشريعية التي يلوح مع التئامها شبح الحرب الأهلية في الأفق، فتمتد إجازتها بلا نهاية محددة.
÷ الأخطر أنها زعزعت ثقة الناس بعضهم بالبعض الآخر، إذ قسمتهم بين قاتل أو متواطئ على القتل، وبين قتيل أو مرشح للقتل، لا الأول قادر على إثبات براءته في وجه الإدانة المسبقة، ولا الثاني مؤهل للتصديق أنه حي بعد، لم يقتله أحد ولا هو مهدد بالقتل، بل «الوطن» وبالتالي «المواطن» هو المقتول فيه.
÷ أسقط الاتهام الذي استبق التحقيق، براءة الأبرياء، أي مجموع الشعب، فإذا الكل مدان إن لم يكن بجرم القتل فبجرم التواطؤ مع القتلة أو التستر عليهم، أو رفض التهمة، أو عصيان العدالة الدولية… وهذه خطيئة مميتة، كما تعرفون!
بعده جاء الاستغلال السياسي للجريمة: فإذا الادعاء العام إسرائيلي الهوى، والقضاء أميركي الغرض، والشهود من أهل الزور، والتحقيق لا يهتم بالضحية إلا من باب الاستثمار السياسي وتركيز التهمة على كل من قال «لا» للاحتلال، إسرائيلياً في جنوب لبنان، أميركياً في العراق والخليج، وهيمنة أميركية باطنها إسرائيلي في سائر الجهات العربية، أُولاها اليمن وآخرها المغرب بمربعه التائه بين جماهيرية القذافي العظمى وامبراطورية الزين في تونس والجمهورية البوتفليقية في الجزائر والمملكة الشريفية في المغرب الأقصى.
… وها هو لبنان بعد ست سنوات إلا قليلاً من ارتكاب تلك الجريمة التي شكلت منعطفاً سياسياً حاداً في تاريخ المنطقة المعاصر، يعيش حالة من التيه في بحار الشك بالذات، والشك بالأخوة والأهل الأقربين، مما يدفعه ـ بالغضب أو بالخيبة ـ نحو إسقاط العداء عن العدو واتخاذه جاراً قد تحوله الأيام إلى صديق من باب «عدو عدوك صديقك».
… وها هو العدو الإسرائيلي يحاول التعويض عن خسارة حربه على لبنان صيف العام 2006 بزرع شبكات جواسيسه في مختلف الإدارات، مدنية وعسكرية، وزرع محطات التنصت فوق ذرى جباله مطمئناً إلى أن انكشاف بعضها لن يمنعه من إعادة بنائها (كما في الباروك)، وإلى أن المخاصمات السياسية ستعصم عملاءه من أن ينالوا جزاءهم العادل وهم الذين تسببوا في نصرة عدوهم ضد أهلهم لقاء ثلاثين من الفضة، وتآمروا على جيشهم وهم فيه، وتواطأوا على اغتيال بعض مجاهديهم الذين لم يقاتلوا يوماً إلا عدو وطنهم وأمتهم، إسرائيل.
بل إن هذا العدو الإسرائيلي لا يتورع عن التجسس حتى على مصر التي أخذها حاكمها إلى معاهدة صلح فاضحة في إيذائها لتضحيات الشعب وأبطال جيشه في الحروب المتكررة التي شنتها عليها إسرائيل… فإذا به ينشئ شبكات للتجسس عليها، إضافة إلى جهاز سفارته بكادراته جميعاً العلنية والمموهة، وشبكات عملائه الذين باتوا يتمتعون بحرية التنقل والتخابر والتواصل براً وبحراً وجواً.. وهكذا عمد إلى استخدام بعض العملاء التافهين، محاولاً ـ مرة أخرى ـ النفاذ إلى كل من سوريا ولبنان ولو عن طريق الالتفاف عليهما بواسطة بعض «الأشقاء» الذين لم يتورعوا عن خيانة بلادهم فكيف لا يخونون من لا يزالون أعداء للإسرائيليين الذين يمارسون قتل «الفلسطينيين» كهواية في أوقات الفراغ… من الحروب؟!
[ [ [
منذ ست سنوات إلا قليلاً، ينام اللبنانيون على الشك في أنفسهم، ويستفيقون على الشك في أهلهم الأقربين، ويتركون مصيرهم معلقاً في أيدي أعداء الشعوب من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، الذين لم يصدروا ـ على مر تاريخ الحروب الإسرائيلية ـ قراراً واحداً بإدانة إسرائيل، فضلاً عن معاقبتها، ولا هم أنشأوا محكمة دولية لمحاسبتها على جرائمها اليومية التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها ضد شعب فلسطين، بأطفاله ونسائه ورجاله، بمخيمات البؤس التي يعيش فيها بعد طرده بالقوة من مدنه وقراه كي «يرثها» المستقدمون من أربع رياح الأرض جاهزة، وبغير عناء… فضلاً عن محاكمتها على جرائمها ضد الشعب اللبناني الذي احتلت أرضه وفتكت بأبنائه طيلة 22 سنة، إضافة إلى الحروب المتكررة التي شنتها عليه، ووصلت في بعضها إلى عاصمته التي «احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء»، و«عيّنت» عليه بقوة دباباتها رئيسين للجمهورية ما إن اغتيل أولهما حتى نصبت شقيقه الثاني، بغير أن يتدخل مجلس الأمن أو ينشئ محكمة دولية لمعاقبتها على جرائمها التي بلا حصر..
ومع ترحيب اللبنانيين باهتمام إخوتهم الكبار من أهل النظام العربي بأحوال وطنهم الصغير وحرصهم على استقراره واطمئنانهم إلى نزاهة المحكمة الدولية وعدم تسييسها، فإن ذلك لا يمنع عنهم القلق، إذ لم يشتهر عن هؤلاء الأخوة الكبار بمجموعهم عشقهم للحق أو إيمانهم بالعدل أو احترامهم للنزاهة، وإن كان عُرف عنهم تقديس كل ما هو «دولي» من مجلس الأمن إلى البنك الدولي إلى صندوق النقد الدولي إلى قوات الطوارئ الدولية وانتهاءً بالمحاكم الدولية… التي تحاكم غيرهم!
ثم إن هؤلاء الأخوة الكبار لم يظهروا مثل هذا الاهتمام بفلسطين ومصير شعبها المشرّد والمقتول كل من يفكّر فيه بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي ولو دفاعاً عن منزله الذي يهدم لتُبنى فوق أنقاضه مستوطنة لغرباء يأتون ليحلوا محل أهل الأرض وبنائها وحماتها على امتداد ألفي عام أو يزيد.
… ولا هم أظهروا مثل هذا الاهتمام بالعراق، لا حين اجتاحته قوات الاحتلال الأميركي، ولا حين تهددته ـ ولا تزال ـ الحرب الأهلية بين «مكوّناته» السياسية التي لا تفيد كثيراً في تمويه الطائفية والمذهبية، في حين أن العنصرية تفصح عن نفسها بل وتتباهى بإنجاز استقلالها في إدارة إقليمها و«ملحقاته» الغنية بالنفط.
… ولا هم أظهروا مثل هذا الاهتمام بمصير السودان الموضوع الآن على مشرحة التقسيم على أسس عدة: بينها العنصري والطائفي والجهوي، وفيها جميعا تتداخل القبلية والأديان المستوردة حديثاً بغلافها الأميركي الفخم أو تلك المصنّعة في إسرائيل برسم التصدير لمن فاتهم موسم الانتساب الوراثي إلى الأديان..
بل إن هؤلاء الأخوة الكبار لا يظهرون مثل هذا الاهتمام المبالغ فيه بالمحكمة والعدالة والادعاء العام الدولي بأوضاع بلادهم الداخلية ومطالب شعوبهم في الحد الأدنى من الكرامة والعدالة واستقلال القرار الوطني والتصدي للأخطار التي تتهدد بعض البلاد العربية في وحدتها، ومجموعها في أمنها الوطني وفي استقلال إرادتها.
يصبح السؤال مشروعاً، بالتالي: لماذا اجتمع علينا الذين لا يجتمعون؟! فكثير منهم يقاطع القمم التي كانت ذات يوم أملاً بالتلاقي على الحد الأدنى وباتت مصدراً لتعظيم الاختلاف على الجزئيات حتى لا يكون اتفاق على الأساسيات… ثم إن أكثريتهم المطلقة تمارس السلطة في ظل الأحكام العرفية التي في عدالتها من العدل بقدر ما في الموسيقى العسكرية من الموسيقى؟!
[ [ [
إن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري جريمة فظيعة بكل المعايير،
لكن الاقتصاص من المجرمين الكبار الذين لهم بين الدول المستفيدة من الجريمة من يحميهم بإبعاد الشبهة عنهم، لا يكون بالاندفاع ـ بعيون مفتوحة ـ إلى الفتنة التي يذهب ضحيتها أهل الشهيد، أي عموم اللبنانيين وأشقاؤهم العرب، من دون أن يمس القتلة الفعليين أي سوء، بل إنهم يفيدون في هذه الحالة مرتين: من تغييب الرئيس الشهيد ثم من تدمير وطنه، وربما الأمة جميعاً عبر أتون الفتنة التي يعمل العاملون على إطلاقها عمياء، لا تبقي ولا تذر.
ولا يزال في الوقت متسع لإنقاذ من وما يمكن إنقاذه في لبنان وسائر الدول العربية المهددة بأنواع شتى من الفتن، فيها الطائفي والعنصري والقبلي والمختلط، وكلها تصب في مصلحة طرف أوحد: العدو الإسرائيلي.

Exit mobile version