طلال سلمان

فأر كبير في فراشي

بلوزة ناصعة البياض وجونلة كحلي غامق وجورب سوكيت أبيض وحذاء جلدي أسود بكعب بسيط، يونيفورم المدرسة السنية يزيد عليه في الشتاء بلوفر من لون الجونلة. أذكره ليس لأن ابنة جيراني في نفس المنزل كانت من تلميذات هذه المدرسة العتيدة ولكن لأننا، نحن تلاميذ مدرستي الخديوي اسماعيل والإبراهيمية من أبناء الحي، كنا نتناوب مرافقة بنات الجيران في رحلتهن من المنازل إلى المدرسة الأشهر في تلك الأيام. كانت تعليمات الأهل، أهلهن وأهلنا، للصبيان المرافقين والبنات ألا نسلك طريق الترام المزدحم بالباصات وعربات الخيل والرجال المتوجهين إلى مصالحهم الحكومية. كان الأهل جميعا يطمئنون إلى سلامة بناتهن وسلامتنا إذا سلكنا الطرق والحواري الجانبية. “هناك، ولاد البلد عارفينكم ويخافوا عليكم وحيحرسوكم”.


كنت موضع حسد رفاق الحي منذ دخلنا مرحلة المراهقة واكتشفوا كما اكتشفت أن جارتي هي الأجمل على بنات الحي المتقاربة أعمارهن. لم يلفت نظرنا، نحن الصبيان، بقدر ما لفت نظر أهلي تحديدا أن الطفلة بنت جيراننا هي الآن تتصدر بنات وأبناء عمرها طولا و”شبابا”. أضف إلى كل ما سبق خفة ظلها وتمردها على المألوف في سنها وانفتاحها السابق لأوانه على مجتمعات الصبيان. سمعت جارا تجاوز منتصف العمر يقول لزوجته “أتردد في تنبيهها إلى تجاوز في الملبس أو إلى كلمة تكثر من استخدامها وهي لا تصح إلا للذكور، أتردد لأنها حين أتكلم معها تحملق في وجهي بنظرة استغراب وابتسامة رضا. دائما ودودة ودائما تفعل ما تريد وغالبا ترد بما لا نتوقعه”.

جرت عادتنا في تلك الأيام، كبارا وشبابا وأطفالا، على أن نقضي أمسية بين الحين والآخر لمشاهدة حفنة من الأفلام المصرية والأمريكية في دار السينما الصيفية الأقرب إلى منازلنا، نعود منها بعد منتصف الليل على دفعات. ذات أمسية استجبت لرغبة منها فتباطأت خطواتنا أثناء العودة حتى صرنا وحدنا في ذيل المجموعة. همست تطلب مني أغرب طلب. طلبت أن أصطحبها مساء اليوم التالي لتقابل في وجودي أحد مشاهير لعبة كرة القدم من أبناء الحي. كان أكبر منا سنا وكنا نفخر بأنه من عندنا ولكنه ليس منا، وهذه قصة أخرى من قصص الحي ليس مكانها هنا. بررت طلبها بأن الشاب يثير فضولها، وهي لا تعرف كيف تكتم فضولا. رأيت وتعلمت عجبا. رأيت كيف إذا اجتمع للمرأة ذكاء وجمال ودلال “خر” غرور أقوى الرجال تواضعا. بادرته بالقول إنها أحست بأنه يريد قضاء وقت معها أجاب متلعثما، نعم كيف عرفت. نعم أرغب في أن نتحدث في أمر يخصنا. قالت أعرف كل شيء، ستأتي إلى منزلنا غدا لنتحدث، وستكون فرصة ليتعرف أهلي على نجم تظهر صوره في الصحف.. أعلنت نهاية المقابلة حين استدارت ناحيتي قائلة “تعبناك معانا”. أمسكت بيدي بقبضة فيها تشبث لم تخطئه عين النجم اللامع. افترقنا أمام شقتها على قولها “انتهى الفضول. أطفأتهما معا، فضولي وغروره. لن يعود. أشكرك يا جاري العزيز”.


أفعل أحيانا ما يرضي أولادي وأحفادي. أكسب برضاهم نصائح أقل. أعيش هذه الأيام مرحلة اكتمال دورة العمر. كنت أنصح بكثرة وكانوا صغارا، هم الآن ينصحون بكثرة. لا ألومهم ولا أعاتب ولا أذكرهم بنصائح كنت أغدق عليهم بها أحمد الله أنهم لم يأخذوا بها. نزلت عليهم ضيفا وكان الموسم صيفا والموقع شاطئا من شواطئ ما صار يعرف بالساحل. اسم يساوي للأسف عند مصريين أكثر ما يساويه وادي الملوك في الأقصر وأبي الهول وأهراماته في الجيزة وضفاف النيل عند أسوان. استجبت للنصيحة ورحت “أتمشى”. لا هدف. أخفيت أنني إن قابلني مقهى أو مقعد على رصيف فسوف أجلس. لن أتردد. وهو بالفعل ما حدث عندما وجدت نفسي اقترب من مقهى مفتوح الجنبات. اخترت مائدة قريبة من الماء وبعيدة عن مكبر الصوت وعن الضوء المبهر. طلبت مشروبا قيل إن قليلين في مصر هم الذين يجيدون نطق اسمه المطبوع في قائمة مشروبات ومأكولات المقهى.


انشغلت عما يدور حولي بالتفكير فيما يخصني مباشرة وليس من أمور الدولة والمجتمع. وصل المشروب الذي طلبت لأكتشف بعد الرشفة الأولى أنه لا يستحق اسمه الغريب جدا ولا الثمن الأشد غرابة. عاد النادل بعد قليل ومعه سيدة تجاوزت منتصف العمر حتى امتد الشيب إلى بعض شعرها. اعتذرت عما أسمته اقتحام وحدتي واستأذنت في اصطحابي لالتقي بسيدة متقدمة في العمر تريد التحدث معي وتجد صعوبة في الحركة وإلا أتت بنفسها. نهضت بصعوبة تعودت عليها ومشيت متثاقلا. يسمون الاثنين، النهوض بصعوبة والمشي متثاقلا، يسمونهما تأدبا، النهوض والمشي بوقار. استقبلتني السيدة بابتسامة اعترف أنني لم أقابل بمثلها من قبل. ابتسامة تبعث برسائل عديدة في لحظة واحدة، رسالة اعتذار، ورسالة فرحة حقيقية كفرحة طفل، رسالة فوز وانتصار على سمعة كبار السن، رسالة شوق لمستحيل لا يعود وحنين لأشياء لم يتسع الزمن لها لتتبلور، ورسالة بحضن كان ليتحقق لو لم يتدخل القدر بفعل من أفعاله أقعدها قبل أن نلتقي.


بادرتني فقالت “رأيتك من شباك غرفتي يوم وصولك. شعرت على الفور أنني أعرفك. هذا الوجه بابتسامته لا يجود الزمن به أكثر من مرة. بعثت بصديقتي المقيمة معي لتتقصى. عادت باسمك وتفاصيل عائلتك. من حسن ظني أنك قررت تخرج لتتريض. رأيتك تخرج فقررت اللحاق بك وأفلحت. أراك تجهد فكرك لتعرف من أكون بالنسبة لك. أنا في مخيلتك ولكن ليس على طرف لسانك. أنا جارتك. وبكلمات ثلاث أدق، أنا سمية بنت الجيران. تفضل بالجلوس إن لم يكن عندك ما يمنعك”. جمعت أغراضي وعدت أحملها ومشروبي ثقيل الظل. شعرت بها تتابع بنظرها خطواتي ذهابا وإيابا. لم تنتظر حتى أجلس. استطردت تكمل حكايتها عن السبعين عاما منذ افترقنا. “كل ما أذكره الآن عن آخر لقاء لنا أنك وشبان الحي احتفلتم بتخرجك من الثانوي وأقامت أمك حفلا كبيرا. ما لن تذكره لأنك لم تدع إليه ولم تستشر فيه هو حفل قراءة فاتحتي وخطبتي ثم زواجي بدون إعلان وسفري إلى السعودية. نعم اختفيت ولم أودع الجيران ولا أصدقاء وصديقات الحي. قضيت عاما في السعودية عدت في نهايته لأضع طفلي الأول. أجرنا بيتا أقمت فيه شهورا مع الطفل سافرت بعدها إلى السعودية لأحمل وأعود إلى القاهرة لأضع طفلي الثاني. مرت سنوات ثلاث أخرى قضيتها في السعودية مع الطفلين وزوج بالكاد أعرفه. في نهايتها سألني زوجي إن كنت أمانع في أن أعيش مع الطفلين في القاهرة مرفهة، ويعيش وحده في السعودية متقشفا لحين تكتمل الثروة المنشودة. لم أمانع. ولماذا أمانع وأنا أعرف أنني إن غبت عن المكان فلن أحن إلى شيء أو إنسان”.


كعادتي لا أقاطع. كانت هي التي قاطعت نفسها لتطلب كوبا من اليانسون وتعرض علينا مثله. اعتذرت عن اليانسون بحجة تمسكي بمشروبي المعذب. قالت “هكذا كنت ونحن صغار. كنت دائما تحتضن أشياءك الصغيرة وتعرض علينا احتضانها بعدك. تلك الأيام تعود الآن بوضوح غريب وأنت أمامي والذكريات تتلاحق في مخيلتي. ذكريات بالألوان تطارد الذكريات الباهتة التي كنت على وشك أن أنقلها لك عن أيام زواجي التي قضيتها مع زوجي هناك وأيام زواجي التي قضيتها بمفردي هنا. على فكرة أحب أن أؤكد لك، كما أكدت لمعالجي قبل أيام، أن لا فارق يذكر بين أيام هناك وأيام هنا. كان الزوج في الحالتين كأن لم يكن. لا أحب أن أرددها ولكنها شكلت لغز السبعين عاما، وهو اللغز الذي يسعى لحله معالجي الأستاذ المعروف ويطلب مني مساعدته بأن أرددها، فأقول لك أن طفلي الثاني كان آخر ثمرة اشترك في صنعها هذا الزوج. حتى ثروته التي قضى أكثر عمره يكنزها ولم نعلم عنها شيئا أولادي وأنا حتى فارق الحياة، وعلى كل حال لم نستطع استعادتها من سارقيها، وأغلبهم نافذون. فات أن أخبرك أن ابني وابنتي سافرا للدراسة وهم في سن المراهقة ويعودان في زيارات خاطفة يقضونها في فندق قريب من البيت الفسيح الذي ولدا فيه وأقيم بمفردي في إحدى غرفه. ترعاني مرافقة”.

“قلت لمعالجي وأقول لك الآن، أن الفتاة التي كانت تعرف وهي مراهقة بأنها تملك الشجاعة والقدرات التي تؤهلها لتجعل من فراشها مصدر سعادة أبدية لها ولدنياها ولرجل تختاره، هذه الفتاة عاشت لسن الثمانين تكره فراشها. تارة تراه وقد احتله الغاصبون وتارة أخرى وقد عصفت به الأعاصير وتارة ثالثة وقد انشق عن غابة من الأشواك والأغصان المهترئة. ليالي كثيرة افترشت فيها الأرض أو نمت في غرفة مرافقتي”.

“أمس الأول، وبعد تناول العشاء سبقت مرافقتي إلى غرفتي، نهضت قليلا من مقعدي المتحرك لأفتح باب غرفتي. انفتح الباب. دفعته بقدمي ودخلت لأجد نفسي وسط الغرفة وفراشي أمامي وقد تمدد بطوله فأر بحجم رجل تستجديني شواربه أن أنهض وأصعد إلى فراشي وأتمدد بجانبه. لم أصرخ. تجمدت أطرافي ولساني قبل أن أفقد الوعي”.


مدت يدها تودعني وهي تقول “جاري الأقدم والعزيز. سألت أهل المعرفة والعلم. قيل لي تعيش الرغبة سبعين عاما وأكثر. إن أشبعت المرأة بعضها بالحب والمودة عاشت بقية حياتها في وئام مع الرجل حيا أو صورا في ذاكرة، وإن قمعت مبكرا أو أهملت عاد دائما يجول في غرف نومها في شكل وصفات حيوان قمئ ومكروه”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version