طلال سلمان

غياب امر لا غضب

لن يقبل المواطن العربي الطبيعي ، الذي يستشعر خطراً داهماً على مصير دوله وعلى هويته بل وعلى حقه في الحياة، أي عذر يقدمه ذلك النفر من القادة العرب الذين غابوا عن القمة العربية في دمشق، سواء أكان الغياب نتيجة غضب شخصي بمفعول رجعي، أو أنهم غابوا تلبية لطلب من لا يرد له طلب من الأصدقاء الكبار الغاضبين من سوريا وعليها لأنها تعطل أو تعرقل مشروعهم للهيمنة المطلقة على هذه المنطقة من أدناها إلى أقصاها وبالعكس..
فأما الغضب الشخصي فلا يكفي لتبرير الغياب، إذ إن المناسبة ليست شخصية، وبالتالي فليست صالحة للانتقام من الرئيس السوري بشار الأسد وبهذا الأسلوب الذي سيفسره هذا المواطن العربي الطبيعي ، خارج سوريا على أنه إهانة موجهة إلى سوريا جميعاً، بدولتها وشعبها وتاريخها، فكيف بأهلها الذين فتحوا صدورهم لاستقبال هذه القمة في عاصمتهم ذات العبق التاريخي العظيم، والتي أسماها العرب منذ زمن بعيد قلب العروبة النابض ؟!
إنها القمة العربية، أي المؤسسة اليتيمة الباقية لتجمع بين القادة العرب من فوق خلافاتهم السياسية، وهي حادة ومتعددة الأسباب، بقصد محاولة الوصول إلى تسويات أو اتفاقات على قاعدة الحد الأدنى، مما قد يخفف من وطأة الكوارث القومية التي تعصف بأوضاع الدول العربية، وتتهدد العرب جميعاً، غنيهم قبل فقيرهم، بالتشتت والضياع حتى الاندثار بشهادة ما يجري لبلادهم من العراق تحت الاحتلال الأميركي إلى فلسطين التي يكاد الاحتلال الإسرائيلي يذيبها، أرضاً وشعباً وقضية، إلى لبنان المعلق مصيره على التوافق العربي… ناهيك بالسودان وما يجري فيه ويدبر له، والجزائر وما يتهددها، واليمن وما يعصف بها من مخاطر إلخ..
إنها القمة العربية، التي لم تعقد مرة إلا والخلافات تظللها، تتهدد انعقادها، ثم تجهض المفيد من قراراتها بالتسوية الذاهبة بالمعنى..
بل إن اختراع القمة وإضفاء طابع المؤسسة عليها إنما تمّ نتيجة الحاجة إلى التلاقي، برغم الخلافات ومن فوقها، وبقصد التلاقي على ذلك الحد الأدنى الذي كان ينظر إليه دائماً كإنجاز… تاريخي !
ويستطيع أي شاهد محايد أن يقدم كشفاً تفصيلياً بالخلافات التي سبق لها أن تهددت كل قمة من القمم العربية السابقة، والتي جعلت أمر انعقادها معجزة ، وأمر خروجها بقرارات الحد الأدنى معجزة ثانية..
على هذا سيذهب المواطن العربي الطبيعي إلى الاستنتاج البديهي: إن الغياب عن القمة، وفي دمشق الغالية على قلوب العرب، قد تمّ بالأمر الأميركي وليس بالغضب الشخصي… وهو قد تم لنسف هذه المؤسسة اليتيمة التي كانت الأرض الطبيعية لمحاولة توحيد المواقف، أو تقريب المتطرف منها من المعتدل ودائماً تحت شعار إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من التضامن العربي. و الأمر الأميركي كان معلناً: بجولة الرئيس الأميركي جورج و. بوش في المنطقة، حيث حظي باستقبال لا يستحقه ولا يليق بمن أعده له، متضمناً إشراكه في رقصة العرضة ، وبالسيف الذي حوّله أصحابه القدامى إلى تذكار.. من ذهب!
ثم إن الأمر الأميركي قد أعلن مرة ثانية، وبشكل مباشر، عبر جولة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في المنطقة، والذي حظي بتكريم لا يستحقه، هو الآتي لمناسبة الذكرى الخامسة للاحتلال الأميركي للعراق، فإذا به يعود بالوشاح الأكبر من دولة عربية كبرى… كأنما مكافأة له على هذه الجريمة بحق العرب جميعاً وفي كل أرضهم، عبر العراق وشعبه الموزع بين قتيل وجريح ومهجّر ومشرّد هائم على وجهه في أربع رياح الأرض.
يبقى أن غياب هؤلاء القادة العرب عن القمة في دمشق قد آذى لبنان وأضاف المزيد من التعقيدات إلى أزمته الخطيرة، التي تقف بشعبه على الحد الفاصل بين الفتنة العمياء واندثار الدولة فيه..
ولن يقبل أي مواطن طبيعي في لبنان ذلك التبرير الممجوج الذي يتشدق به بعض دعاة الفتنة من أن ذلك الغياب عن القمة العربية في دمشق كان من أجل لبنان .
… اللهم إلا إذا كان هؤلاء قد فهموا أن الغياب هو مقدمة لإشعال الحريق في لبنان.
أما في واقع الحال فإن هؤلاء القادة المتغيبين قد وفروا بتصرفهم الأخرق فرصة للفرز بين من يريد الخير للبنان، وبالتسوية وليس إلا بالتسوية المضمونة عربياً، وبين من يريد استغلال الأزمة في لبنان لأغراض لا علاقة لها بمصلحة شعب لبنان في حاضره أو في مستقبله.
وفي واقع الحال فقد قدم هؤلاء القادة المتغيبون نصراً سياسياً ثميناً للرئيس بشار الأسد، ليس عبر المسألة اللبنانية وحدها، وإنما عبر الموقف من مجمل المسائل بل الكوارث العربية التي يعيش العرب في ظلها والتي سيزيد هذا الغياب من تفجرها كأخطر ما يكون التفجر.
لقد تركوا للقمة العربية في دمشق شرف الاهتمام بقضايا العراق وفلسطين ولبنان، وسائر الأزمات التي تعصف بالمنطقة جميعاً، وذهبوا متعجلين ليلتحقوا بمن تسبب في تحويل هذه الأزمات إلى مشاريع حروب أهلية مفتوحة من شأنها أن تذهب بالحاضر العربي.. فكيف بالمستقبل!
ولقد ظلت القمة العربية قمة عربية.. حتى مع غيابهم!

Exit mobile version