طلال سلمان

غضب ينتحر تفاهم

هل هدأ »غضب« شمعون بيريز الآن وبعد ستة عشر يومù من الحرب التي أفقدته الكثير من سمعته السياسية من دون أن تثبت »تفوقه« عسكريù على جنرالات إسرائيل المتقاعدين منهم والطامحين لمشاركته الزعامة أو المتعجلين لخلافته؟!
هل كان له ثأر شخصي على الخمسمئة مواطن لبناني ممن قتلتهم أو جرحتهم الصواريخ وقذائف الغارات الجوية ومدافع الميدان، وعلى مئات البيوت في مدن الجنوب وقراه، كما في البقاع الغربي، وعلى شبكات الطرق والمياه والكهرباء فحقق انتقامه وارتاح إلى »انتصاره« فهدأ روعه وحزم حقائبه ليطير إلى واشنطن مطمئنù إلى أنه سيكافأ بسخاء يرفعه في انتخاباته غدù إلى مستوى »الزعيم« و»التاريخي«؟!
بأي قراءة سياسية هادئة ل»التفاهم« الذي أنهى حرب بيريز على لبنان ستبدو النتائج فاقعة في دلالاتها: لقد خسر شمعون بيريز وخسر معه حاميه وراعيه الأميركي، وربح الآخرون جميعù: لبنان بدولته وشعبه وحركة المقاومة الباسلة للاحتلال، وسوريا بطبيعة الحال، ومن ثم فرنسا (ومن خلفها أوروبا عمومù)، بغير أن ننسى إيران، وصولاً إلى روسيا المستضعفة والمهيضة الجناح.
فأما الدولة في لبنان فقد انتزعت »اعترافù« معززù الآن ليس فقط بشرعيتها ووجودها، بل أيضù بحقوقها في أرضها، ثم بكونها طرفù لا يمكن تغييبه أو استبعاده عن الحل النهائي، كما كانت تمارس إسرائيل ازاءها طوال السنتين الماضيتين، بل منذ بدء »العملية السلمية« قبل خمس سنوات تقريبù،
ولقد اكتسب الحكم في لبنان، عبر المحنة، بمؤسساته جميعù مصداقية وشهادات بحضوره وتمثيليته لم يكن مسلَّمù له بها من قبل، لا في الداخل ولا في الخارج.
أما لبنان الشعب فقد زادته المحنة تماسكù وفتحت أمامه آفاقù جديدة لترسيخ وحدته، وأكدت حيويته جدارته بالديموقراطية، كما أكد الالتفاف الممتاز حول المقاومة الرفض الوطني الشامل ليس فقط للاحتلال بل للتنازل أو التفريط على الطريقة الفلسطينية أو الأردنية. لم يعد لإسرائيل أكثر من وجه في لبنان، ولم تعد المقاومة امتيازù أو إقطاعù أو اختصاصù لفئة أو لجماعة تُقبل كأمر واقع أكثر منها تعبيرù صادقù عن مشاعر الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
كان اللبنانيون جميعù معنيين بسلامة المقاومة، ووقفوا جميعù إلى جانب »حزب ا”« حتى كادوا ينضوون تحت لوائه.
أما سوريا فقد تولت قيادتها إدارة الصراع بكفاءة نادرة المثال، تحولت معها دمشق الى مركز الحركة ومقصد الساعين على اختلاف اغراضهم: سواء جاءت بهم المصالح والبحث عن دور اضافة الى التعاطف مع لبنان (كفرنسا)، او الرغبة في إنقاذ بيريز من نفسه (كالأميركي)، او تجنب الغياب والظهور في الصورة (كالروسي)، او التعاطف مع المقاومة والإفادة منه لاكتساب حق المشاركة في الحل النهائي المقرر لمستقبل المنطقة (كإيران).
لقد اثبت الرئيس السوري حافظ الأسد، مرة اخرى، جدارته بالدور التاريخي الذي يضطلع به، وانه قادر دائمù على العودة للإمساك بمسار اللعبة حتى لو كان غيره من اطلقه ليعدل بها الموازين الدقيقة للوضع القائم.. وهو هش بطبيعته.
لا مجال لقرار حول المنطقة من دون حافظ الأسد او بالتضاد معه، او بتجاهله.
وفي اول مواجهة مباشرة مع شمعون بيريز لا يصعب ابدù تحديد من انتهى رابحù بعدما بدا كأنه المستهدف الأول بالضربة، ومن انتهى خاسرù برغم توفر كل اسباب القوة لديه (عسكريù وسياسيù بالدعم الاميركي المفتوح، وبالتغطية الهائلة التي كانت وفرتها له قمة شرم الشيخ).
ولقد حققت فرنسا عبر مبادرة رئيسها جاك شيراك وعبر الإصرار العنيد لرجل الدبلوماسية الهادئ وزير خارجيتها هيرفيه دو شاريت مكاسب يصعب حصرها، اهمها انها انتزعت الاعتراف الاميركي (والاسرائيلي) بها طرفù في مسألة الشرق الاوسط برمتها، وفي مشاريع التسوية النهائية للصراع التاريخي فيها.
ومع فرنسا عادت اوروبا طرفù اليوم وفي المستقبل، ومن الصعب تخيل اي استئناف لمسيرة مؤتمر مدريد في غياب اوروبا (الفرنسية) الآن، والتي شجعت روسيا على استذكار حقها في المشاركة وإضافة قدر من الوجود المادي الى رمزيتها السابقة.
لقد خسرت الإدارة الاميركية الكثير من رصيدها في المنطقة وفي العالم، نتيجة تبنّيها (الأعمى) لشمعون بيريز ومغامرته العسكرية التي افقدته الكثير من مكاسبه العربية، مما اضاع نتائج شرم الشيخ اميركيù واسرائيليù.
لقد جاء كل »اهل« شرم الشيخ يفاوضون في العاصمة التي طالما اتهموها، وما زالوا يتهمونها كما يدل التقرير الجديد للخارجية الاميركية، باحتضان »الارهاب« بكل فصائله العربية والاسلامية: من »حزب الله« الى »حماس« و»الجهاد الاسلامي« وأحمد جبريل… من غير ان ننسى تحالفها الثابت والوطيد والدائم مع ايران »الإرهابية« بامتياز، هي الاخرى.
وإذا كان »التفاهم« يستنقذ خسائر اضافية كان يمكن ان تُمنى بها الادارة الاميركية فمن الصعب ان يعوض على بيريز ما فقده فعلاً من »رصيده« الأصلي فضلاً عن طموحاته التي ثبت انها أقرب الى الاوهام منها الى الخطط الاستراتيجية التي تستولد عالمù جديدù يحمل بصمته تحت اسم »الشرق الاوسط الجديد«.
لقد سقط »الشرق الاوسط الجديد« صريعù على ارض لبنان.
أما ما بعد »التفاهم« فله حديث آخر… بعد انطفاء النار تمامù.

Exit mobile version