طلال سلمان

غسان كنفاني يستعيد “فارس فارس” وإبداعاته..

الرواية هي الراوي، تماماً كما أن الشعر هو الشاعر،
وغسان كنفاني كان نسيج وحده: فهو الرواية الراوي، والشعر الشاعر والرسم والرسام والنحت والنحات، والكتابة والكاتب.. كل ذلك من داخل إيمانه العقائدي الذي تزيد فيه الصوفية عن الالتزام الحزبي بغير أن تخربه.
لذلك كان غسان كنفاني فلسطين أكثر مما هو الفلسطيني، وبالتالي فهو »العربي«، ولأنه فنان متعدد المواهب فإن إنتاجه جميعا جاء مدموغا بهذا الطابع »القومي« حتى بعدما هاجرت حركة القوميين العرب إلى الماركسية ثم استيسرت حتى تعدت حدود الثورة الثقافية لماوتسي تونغ في الصين.
ثم ان غسان كنفاني كان يعرف انه على موعد مع الموت، لذلك كان يتعجل ان يقول ما عنده، وما أكثر ما عنده، في الوقت المتاح، وهو قصير قصير.
ربما لهذا كتب غسان كنفاني كثيرا جدا، وكتب في مجالات عدة قد تبدو متباعدة، وقد يتعارض الاهتمام ببعضها مع الاهتمامات الأخرى.
لم يضيع غسان كنفاني ساعة واحدة من عمره القصير بغير إنتاج.
ولم يسمح للصحافي فيه بأن يلغي الكاتب، وواءم بين الروائي والقاص، ثم اقتطع من أولئك جميعا بعض الوقت لهوايتي النحت والرسم، محتفظا بهامش بسيط للشعر، أما أوقات الفراغ فقد خصصها لرئاسة التحرير في صحيفة يومية، ولإصدار ملحق أسبوعي عن فلسطين، ولكتابة بعض أدبيات »الحركة«، بغير ان يخل لحظة بواجباته كمحرر في مجلة »الحرية«،
مع ذلك كان لديه دائما فائض من الوقت لإنشاء العلاقات وتوطيد الصلات مع الصحافيين الأجانب وشرح وإعادة شرح القضية الفلسطينية لهم، والرد على الحملات الدعائية الصهيونية،
ثم انه وجد متسعا من الوقت لقصة حب رائعة مع »آن« التي حملت في قلبها الى جانب غسان »ليلى« و»فايز«، والتي أطلقت روح فلسطين في بلادها الاسكندنافية، فإذا »عكا« تذيب الثلوج وتستقطب المناصرين والمتعاطفين الذين جاؤوا بالعشرات ليشهدوا للحق وليناضلوا من أجل الحرية لفلسطين والفلسطينيين.
ندر أن جمع كاتب بين فنون الإبداع وفن النقد.
في العادة، يكون المبدع والناقد على طرفي نقيض: ذاك يكتب وعلى سن قلمه الناقد، وكثيرا ما يطعنه بسن القلم ذاك، والثاني يتربص بالكاتب ليهشم أو ليدل على مكامن الضعف في نتاجه. وكثيرا ما تتحول معارك النقد والردود إلى مبارزات تتكسر فيها الأقلام على الأقلام ويفقد القارئ يقينه فينصرف الى ما أحب من النتاج مع تحياته للناقد.
غسان كنفاني بين قلة من الكتّاب جمعوا بين النقيضين: المبدع والناقد.
ربما لأنه صحافي،
ربما لأنه متعجل، يريد أن يفرغ من قول ما عنده،
وربما لأنه لم يكن يجد المساحة الكافية لإبراز ذلك »الولد الشقي« الكامن فيه، والذي كان يشكل الوجه الآخر لغسان: لا بد من قدر من السخرية لكي تتأكد مأساوية القضية، ولا بد من كثير من الجد لتخطي السياسات والتصرفات والكتابات الكاريكاتورية الرائجة.
وهكذا انطلق »فارس فارس« من داخل غسان كنفاني، وكتب بالطرف الآخر للريشة، مستولداً الضحك والقهقهة من خلال إعادة عرض النتاج الجديد في صورته الأصلية!
ولقد نشأت منافسة حقيقية بين غسان الأول (كنفاني) وبين غسان الثاني (فارس فارس)، كثيراً ما استدعت تدخل »قوات الفصل«، لا سيما في ملحق »الأنوار« الأسبوعي، حيث كان روبير غانم المهوم في بكائيات عشقه يعاني من الالتباس الدائم بين المبدعين، فإذا ناقش كنفاني رد عليه فارس، وإذا ما حاول الامساك بفارس صعقه غسان بنتاج متميز جديد.
أخيرا، أمكن لفارس فارس أن يعود الى الساحة من جديد،
ولا يحتاج الأمر الى تخمين: انها »آن« العظيمة التي عملت بجهد كي تجمع أو تحرض على جمع كل الكتابات النقدية لغسان كنفاني.
ولقد تولت دار الآداب إصدار هذا الكتاب الجديد معززا بمقدمة نقدية طويلة كتبها محمد دكروب، مستعرضا فيها نقاط التماس والاختلاف والتوافق بين غسان كنفاني وفارس فارس.
* * *
كان »ملحق الأنوار« غرفة في الطابق الثاني من المبنى القديم لدار الصياد،
وكان لغسان مكتبان: واحد في »الأنوار« حيث يسهر على العدد اليومي، والثاني في تلك القاعة الزجاجية التي منها كان يرشق الكتّاب والروائيين والشعراء بسهام نقده، مطمئناً إلى أن تستره سيحميه،
لكن الرسائل المؤيدة، والردود المتفجرة، كثيرا ما سدت الطريق بين قاعتي التحرير والملحق، موفرة لغسان كنفاني الفرصة لكي يندفع أكثر فأكثر في تحدي فارس فارس فيكتب المزيد من القصص والروايات ليثبت أن نقد الآخرين لا يعفيه من المسؤولية عن تطوير إنتاجه حتى الذروة.
مع ذلك تبقى أعظم روايات غسان كنفاني، بل أعظم كتاباته إطلاقا، تلك التي أبدعها دمه المتناثر على الزيتون والبيوت القليلة المتناثرة آنذاك في مار تقلا، يوم 8 تموز 1972، والتي منحته تأشيرة العودة الى عكا.
وشكرا لأن العظيمة التي تستبقي غسان بيننا دائما، ولعلها بعض القلة التي تستبقي فينا فلسطين بصورتها الأصلية المضمخة الآن بدماء كثيرين من جيل غسان كنفاني ورفاقه وأبنائه وتلامذته والآتين لكي ينتسبوا إلى دمه.

 

حسن الحفار: جاءنا الوجد..

تعتد حلب بأنها جمعت، تاريخياً، الى البراعة في الصناعة والريادة في التجارة، »مجد« التذوق الفني والطرب الأصيل.
ويباهي الحلبيون بأنهم المعيار او المسطرة، فمن لم يطربهم ليس بمطرب، فحلب هي نبع الطرب، وهي »اللجنة الفاحصة« للاصوات والمواهب وللالحان والاغاني وكل ما يدغدغ الوجدان ومكامن الحس بالجمال.
لكم هي غنية بتنوعها تلك المدينة البيضاء والعريقة بحيث كان يتعذر كتابة التاريخ وسِيَر الابطال من دون التوقف عندها وامامها،
من لم يبلغ حلب ولم يأخذها اصبح نسيا منسياً،
ومن دخل حلب دخل المشرق كله وانفتحت له ابواب سوريا بما فيها جبال لبنان والساحل السوري وكذلك ارض الرافدين،
.. فإذا كان آتياً من الشرق انفتحت له ابواب اوروبا عبر البوابة التركية.
في حلب تلاقت الحضارات وتلاقحت فأنتجت مجتمعا حيويا متفتحا ومنتجا وغنيا بتنوعه الذي يمتد من الملبس الى المأكل الى طراز البناء، ومن الصناعة الى الزراعة والتجارة فإلى الفنون عموما والغناء والتلحين على وجه الخصوص،
ألم تُعطِ حلب اسمها لبعض ألوان المغنى: القدود الحلبية؟
هذه الايام تستضيف بيروت بعض شميم حلب وبعض روحها: الشيخ حسن الحفار وفرقته.
الشيخ حسن الحفار ليس بمطرب: انه »حالة وجد« كاملة.
إنه يغني وكأنه صوفي يتهجد ساعيا الى »الوصول«.
السبحة القصيرة الخيط في يده، او ربما شفّه النغم فأخذ الرق ليضبط الايقاع، والتمكن من النغم يخوله حق التجول في المتقارب والمتشابه والمتكامل متدرجا على ذلك »السلّم الموسيقي« وكأنه هو من وضعه.
من الموشح الى الشيخ زكريا احمد، ومن القدود الى سيد درويش، ومن الموال البغدادي او ما يقاربه الى رياض السنباطي، ومن نغمات تأخذك الى حلقات الذكر يستعيدك الى أفياء محمد عبد الوهاب،
كسلسبيل من الماء العذب يترقرق الصوت الجهوري النبرة، المضمخ بالنغمات القرآنية، مع روافد بيزنطية، وشجن عراقي (أليست الموصل الاخت التوأم لحلب؟«..
حلب تغني بيروت،
إنها لحظات فرح مختلسة في زمن الحزن السياسي الأبكم.

 

عن الديناصور كلوفيس مقصود

لم ييأس كلوفيس مقصود، بعد، ولم يُلق السلاح.
يقول لك مبتسماً بسخرية مرة: الكل يسميني الآن »الديناصور«، ويقولون إن زماننا قد مضى وانقضى، واننا نجافي عصرنا ومنطقه ونتحدث لغة منقرضة لم يعد يفهمها أحد اليوم..
ويقول لك بنبرة الواثق من صدق تاريخه الذي عاشه بتفاصيله: ببساطة مطلقة يشطبون أعمارنا. إنهم يحمِّلون حقبة الخمسينيات والستينيات (وحتى بداية السبعينيات)، أي مرحلة النهوض القومي والمد الثوري بقيادة جمال عبد الناصر، المسؤولية عن الهزيمة المستمرة والمتفاقمة التي تكاد تنتهي بنا إلى إنكار أسمائنا وهويتنا الأصلية.
وبرغم تعب السنين الطوال التي أمضاها هذا الآتي من الشويفات إلى جامعة الدول العربية ليمثلها في الهند بداية، ثم في أقطار أخرى كثيرة آخرها الولايات المتحدة الأميركية (واشنطن) والأمم المتحدة (نيويورك) فإن كلوفيس مقصود لا ينوي ولا يعرف كيف يتقاعد.
لقد ترك الجامعة العربية، لكنه لم يترك »الفكرة العربية« و»القضية العربية« و»العمل العربي« وما زال مصراً على الاحتراق في أتون السياسة العربية التي باتت سياسات »متحاقدة«، متناقضة حتى وهي متواطئة في ما بينها على المصالح العليا للأمة.
من »الجامعة العربية« الى »الجامعة الأميركية« في واشنطن حيث سعى، مستثمراً صداقاته القديمة وشبكة علاقاته الواسعة جداً، الى تأسيس »معهد الجنوب«،
و»الجنوب« هنا اسم حركي لكل ما عمل له كلوفيس مقصود طيلة حياته: »فالجنوب« يشمل بطبيعة الحال الوطن العربي ومعه كل العالم الثالث أو النامي أو المتخلف والمهدّد الآن بالشطب، اللهم إلا كسوق استهلاكي للبضائع والمنتجات الأميركية أو ذات الرساميل الأميركية في الشركات متعددة الجنسية والمنتشرة في أربع أطراف المعمورة، وفي اليابان وجنوب شرقي آسيا على وجه الخصوص.
في الماضي الجميل، ورداً على تشنيعات منح الصلح اليومية، اشتق كلوفيس مقصود من اسمه فعل »كلفس« وأطلقه فعمّمه حتى صار معتمداً في مختلف اللغات الحية. وكان الاشتقاق في محله، لأن كلوفيس يحمل كلماته أكثر مما تحمل من المعنى، أو أنه يسيء اختيار اللفظة المناسبة للمعنى المقصود، إضافة الى ان كتابته بالانكليزية كانت أعظم وضوحاً من مشافهته بالعربية.
اليوم »تكلفس« الوضع العربي بحيث باتت لغة كلوفيس مقصود أوضح مما يجب،
وكلوفيس ما زال يقاتل بغير تعب من أجل غد عربي أفضل، ومن قلب أخطر عاصمة »إسرائيلية«، غدت محجة للقادة العرب: واشنطن.
بين مزايا »المضاد لليأس« كلوفيس مقصود انه »لا يقطع« مع أحد، بالغة ما بلغت وجوه الاختلاف من الحدة معه، وأنه يستطيع اختراع نقاط التلاقي وتدوير الزوايا أو تنظيم الاختلاف لتحاشي القطيعة.
هل حان وقت العودة؟؛
تسأل كلوفيس أو يسألك، لا فرق، لأن الجواب سيكون الصمت ومحاولة اختراع موضوع جديد تسهل »كلفسته« تفادياً لإحراج الديناصورات المتبقية في الدنيا العربية، والتي ما تزال ترى أنها مؤهلة لتقديم صورة عن المستقبل أكثر من مجموع »التحديثيين« المعاصرين!
البقاع يمتد كجرح مفتوح بين جبلين شاهقين وواجمين، لا يملكان له علاجاً.
إنه متهم الآن بالعقم، وهو الخصب والمخصب والمخصاب والخصيب،
انحبس عنه المطر، وغاب الثلج كلية، فانكشفت صلعة السلسلتين المتقابلتين وكأنهما فارسان يتأهبان لمباشرة مبارزة مفتوحة في الزمان والمكان.
المنظر مزوّر برمته: الملامح ربيعية والطقس عز الشتاء، وبعض الطيور تخطر في الأفق ولكنها تبدو وكأنها لا تستطيع أن تنهي رحلتها، فتحبس أصواتها حتى لا تساهم في الغش والتزييف.
لا »أوف« شجية، لا صدى لصوت أجش يستعيد شبابه بالعتابا، لا تغريدة طائر مدنف بالعشق، والخميلات التي أزهرت قبل الأوان تفتقد الهامسين الآتين بالمواعيد لكي ينسوا فيها الوقت والمواعيد الأخرى.
لا تخضع الطبيعة لتقديم الساعة، ولا تقدم فصولها خدمة للتحولات السياسية.
الحب مهدد باليباس.
منذ متى كان الثلج مطلباً للقادرين على توزيع دفء يكفي العالم كله؟!

 

Exit mobile version