طلال سلمان

غسان تويني ونداء وحدة ديموقراطية طوائفية بوابة حرب اهلية

لم يكن الكبير غسان تويني يسجل موقفاً للتاريخ حين تجاوز وجع الفقد وخاطب اللبنانيين جميعاً، حاكمين ومتحكّمين قبل المحكومين، بكلماته المرشحة لأن تصير منارة على طريق الغد: »أنا أدعو اليوم لا إلى الانتقام ولا إلى الحقد ولا إلى الدم… أنا أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله«.
كان غسان تويني من قلب مصابه المفجع يحرّض اللبنانيين، وقياداتهم السياسية ومرجعياتهم الدينية أساساً، على تجاوز الحاضر بانقساماته التي تهدد وحدته واستنقاذ مستقبل أجياله الآتية: »إنني أطلب دفن الأحقاد والكلمات الخلافية وكل ما هو تقسيمي بيننا..«.
ولقد نجح غسان تويني في إحداث الصدمة النفسية المطلوبة، فتحوّل استشهاد جبران تويني إلى مناسبة وطنية حزينة لمراجعة المواقف، بقصد التحرر مما يباعد بين اللبنانيين، وإعادة اكتشاف أنهم في مواجهة المخاطر واحد، وأنهم في طلب التحرر من الخوف واحد، وأنهم معاً في التطلع إلى تجديد وحدتهم على قاعدة من الوعي بالمصير الواحد، برغم توزعهم على تيارات متنافسة على صيغة الحكم التي يحتاجها وطنهم الصغير في يومه ثم في مستقبله القريب: »إنني ابن مدرسة كانت لا تميز في حبها وتعلقها بلبنان والدول الشقيقة والدول الأقرب إليه..«.
لم تكن خطبة وداع. كانت أقرب إلى دليل عمل. ولم تكن رثاء للأعز من أبناء الحياة، بقدر ما كانت عنواناً لبرنامج يدعو إليه هذا الكبير الذي يملك خبرة ولا أغنى، سواء من موقع الصحافي الرائد، أو من موقع النائب بالأصوات لا بالواسطة، والوزير المعارض والمستشار الرئاسي المختلف مع الرئيس والمندوب الدائم في الأمم المتحدة المتمايز بموقفه عن حكومته، والأستاذ الجامعي الذي كاد يرتقي إلى مستوى المؤرخ، وظل في حالاته جميعاً شاهداً على عصره.
لكأنه كان يقرأ، بالنيابة عن اللبنانيين، في تعاريج السياسة الدولية بمناوراتها وصفقات اللحظة الأخيرة لتسوية الأزمات الملتهبة: أن احفظوا وحدتكم، لأنكم إن خسرتموها فلن يتطوع أحد لإعادة تجديدها بالنيابة عنكم«.
* * *
المصادفة وحدها جعلت كلمات غسان تويني التي سبقت القرار الجديد لمجلس الأمن الدولي تضيء الطريق: الأصل هو فض الاشتباك في الداخل واستعادة الوحدة. ليس الخارج هو الملجأ الأمثل لتحقيق العدل، حتى وإن تبدّى مع فورات الغضب وكأنه المرجع الأفضل للانتقام. إن طلبك للعدل يرفعك فوق نزعة الثأر. والذهاب إلى الحرب ليس أقصر الطرق إلى العدالة.
لكن الجميع جاؤوا إلى غسان تويني بالقصد، ليؤكدوا وحدة الموقف من الإرهاب بالاغتيال، وكان رده دعوتهم جميعاً إلى توحيد الموقف في الداخل لتسهل بعد ذلك مواجهة الخارج.
وغسان تويني، الذي دخل السياسة من بوابة الحزب السوري القومي، المؤمن بوحدة بلاد الشام، والذي تحول إلى موقع آخر مع التجارب الانقلابية والتوهم بالقدرة على استخدام العسكر كوسيلة للتغيير السريع، اكتشف ميدانياً أن ذلك كان سراباً، وأن النتيجة جاءت على شكل انحطام للأحزاب وشعاراتها الأمنيات، وكادت تذهب بالأوطان وليس بدولها المشطرة بالتوافق الدولي فحسب.
* * *
لقد عرف اللبنانيون، بالتجربة، أن اللجوء إلى المحافل الدولية لا يفيد في إنهاء حالات الانقسام الداخلي، بل إنه قد يزيد نارها استعاراً مما يحوّلها إلى حروب أهلية ومن ثم إلى »حروب الآخرين على أرضنا«.
وها هو انقسامهم يزداد حدة، اليوم، نتيجة توغل »الدول« داخل جراحهم المفتوحة بالاغتيالات المنظمة التي طاولت العديد من قياداتهم السياسية والثقافية، وتحريضها الدائم على ممارسة »الديموقراطية«، بمعنى حكم »الأكثرية«، في بلاد يكاد كل مواطن فيها يعتبر نفسه أكثرية، إن لم يكن بقوة تمثيله للشعب فبحقه الطائفي في استخدام الفيتو ضد الآخرين الذين يتحولون إلى أكثريات طوائفية يمتنع على أي منها إلغاء غيرها، كما يتعذر على أي منها أن تحكم منفردة.
فالطائفية لاغية للديموقراطية، في كل مكان وزمان. وتعبير الأكثرية والأقلية في بلد هش البنية السياسية لا يعني غير محاولة تمويه الانقسام بشعارات مستعارة من بلاد الآخرين الذين أنجزوا حروبهم الأهلية منذ زمن بعيد، ليعتصموا بوحدتهم التي تجذرت في مؤسسات راسخة ومؤهلة لأن تحل الإشكالات والتعارضات السياسية والاجتماعية ديموقراطياً بما يعزز الدولة الجامعة ويحمي كرامة شعبها الذي توحد مرة وإلى الأبد.
و»الدول« ترعى الطائفية وتعززها بالامتيازات.
والحروب الأهلية التي كثيراً ما نشبت بين اللبنانيين المنقسمين من حول صورة وطنهم ونظامه السياسي، كانت بصمات »الدول« واضحة على تفجراتها ومساراتها ونهاياتها المفجعة التي أسقطت الوطن لحساب »الكيان«، وألغت »المواطن« لحساب »رعية« الطائفة أو المذهب، وتركت أسباب الخلاف قائمة، وإن موّهتها بتسويات مؤقتة سرعان ما تتفجر فتفجر السلم الأهلي و»دولته« الهشة البنيان.
* * *
في أخبار أمس ما يجب أن يستوقف اللبنانيين، بقدر ما يفترض أن تنبههم كلمات الكبير غسان تويني.
فلقد وصل نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني إلى العراق المشطر لكي يحتفل بالإنجاز الأعظم للاحتلال ممثلاً بعملية الانتخابات التي روّج لها بملايين الدولارات على أساس أنها التجسيد الأكمل للديموقراطية…
لكأن الديموقراطية لا تكون إلا إذا قُسِّم الوطن عناصر وطوائف ومذاهب مقتتلة، وإلا إذا مُزقت دولته الواحدة إلى فيدراليات قابلة للتحول إلى دول متواجهة بالعرق أو بالمذهب أو بكليهما، في ظل ديموقراطية الاحتلال الأميركي التي يستخدمها الآن »فزّاعة« لأنظمة الجوار تجبرها على دعمه وليس فقط السكوت عنه حتى لا يعممها عبر بدعة »الفوضى الخلاقة« بوصفها أقصر الطرق إلى ديموقراطية شرطها إلغاء الوطن.
أما في فلسطين (المحتلة بعد) فلم يتورّع منسق السياسة الخارجية والامنية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا عن تهديد الفلسطينيين بأنهم إن هم مارسوا الديموقراطية وانتخبوا ممثلي »حماس« نواباً في المجلس الجديد، فإن الاتحاد الأوروبي سيعيد النظر في المساعدات التي يقدمها إلى السلطة، والتي تكاد تكون الوحيدة الباقية من قائمة التعهدات بالمساعدة والتي تناساها المسؤولون العرب، بمن في ذلك أهل النفط منهم ممن تضاعفت وارداتهم أضعافاً فبلغت أرقاماً فلكية خلال شهور قليلة من هذه السنة.
أي أن سولانا يخيّر الفلسطينيين بين الرغيف والديموقراطية، بين المدرسة والمستشفى وحلم »الاستقلال« في إدارة شؤونهم الداخلية، تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبين »الديموقراطية« التي يريد أن يضمن أنها لن تذهب إلا إلى المستكينين لهذا الاحتلال، بالتعب من النضال، أو بالسعي إلى سراب »سلطة« وهمية في ظل حرابه.
باختصار فإن سولانا يحمل إلى الفلسطينيين المبتهجين بقرب ممارستهم الحق الديموقراطي داخل بلادهم دعوة إلى الفتنة بين سلطتهم القائمة وبين احتمال وصول معارضتها إلى السلطة ديموقراطياً بأصوات الأكثرية.
بمعنى آخر: إنه يريد إلغاء »الأكثرية« المرشحة لأن تصل إلى السلطة ديموقراطياً بالإرهاب.. الديموقراطي!
وفي الحالتين فإن »الديموقراطية« التي تفرضها »الدول«، باحتلالها أو بتدخلها في الشؤون الداخلية لبلاد الآخرين، لا تعني غير إدامة الاحتلال أو التدخل ولو بالحرب الأهلية.
إنها »ديموقراطية« على حساب الأوطان.
وبديهي أن الكبير غسان تويني كان يدعو إلى الوحدة في الوطن والدولة، التي تكون الديموقراطية نتيجة لها وضمانة لاستمرارها.
ولعل في تلك العبارات التي قالها غسان تويني في مجال شكره للأمين العام ل»حزب الله« السيد حسن نصر الله على تعزيته بفقيد الوطن نجله جبران أفضل تحديد لمعنى الشهادة وموقعها في مسار الوحدة: »كلانا فقد ابنه فصارت بيني وبينك حالة نفسية تجمعنا، هي شهادة ولدينا، وصار عندك إدراك للحاجة إلى إنهاء الصراعات لا تتوافر لسوانا، وكان ثمة ثالث يمكن أن يكون معنا ولكنني فقدته هو الدكتور عبد الله سعادة…«.
الوحدة هي ولاّدة الديموقراطية.
أما لعبة الأكثرية والأقلية في مناخ طوائفي متفجر فليست إلا تقريباً لموعد الحرب الأهلية الجديدة… وخصوصاً أن لا هذه ولا تلك هي خلاصة لتجربة ديموقراطية حقاً، بل هي بداية وانتهاء تجسد توافقاً عارضاً ومؤقتاً بين طوائف ضد طوائف أخرى، كثيراً ما شهدناها معكوسة في زمن مضى، ولم تصبح الانتخابات النيابية التي جرت قبل ستة شهور شيئاً من الماضي بعد.

Exit mobile version