طلال سلمان

غريغوار حداد يختصرنا جميعا

حين هوت الكف الثقيلة بالصفعة المدوية على وجه المطران غريغوار حداد، مساء يوم الجمعة الماضي، أحس كل من رأى المشهد الفظيع بالمهانة… ولعل العرق خجلاً قد غمر وجوه الجميع: انتبهوا إلى أنهم في كل لبنان يقفون على شفا كارثة سياسية اجتماعية أخلاقية وطنية شاملة.
صار غريغوار حداد، في تلك اللحظة، وأكثر ممّا كان في أي يوم الناس جميعاً، بفضائلهم وحبهم للخير وارتباطهم بأرضهم وأهلها، أهلهم.
لم تكن »حادثة فردية«. لم يكن اعتداءً شخصياً نفذه »موتور« ضد الرمز الأنقى للتسامح والحوار المفتوح والمجتمع المدني والتكافل الاجتماعي، بل كان لا بد أن يقرأه كل من رآه مباشرة أو سمع أو قرأ عنه وكأنه اعتداء فظ على مجمل القيم الإنسانية وعلى بعض مكونات المجتمع الواحد لشعب واحد في وطن واحد.
إنه »التطرف« في موقع الهجوم الشرس إلى حد تدمير الذات.
إنه ذلك النوع من »الأصولية« الذي »يقتل« صاحبه في اللحظة التي يفترض فيها أنه »قتل« خصمه، و»يقتل« الوطن أو العقيدة أو المجتمع بينما هو يفترض أنه إنما كان يعمل لإنقاذه.
إنه العمى المطلق بالتعصب الذي يطلق روح الشر المدمرة للأفكار والأحلام والروابط وصلات القربى والانتماء الواحد إلى »وطن واحد« له حاضر واحد ومستقبل واحد، بالضرورة وليس فقط بالمصلحة أو بالاضطرار.
إنها الظاهرة المرضية الخطيرة التي تنهش المجتمع في لبنان، بقدر ما تنهش العديد من المجتمعات العربية الأخرى، والتي تتبدى وكأنها »ضد الغير« ولكنها سترتد حتماً ضد الذات فتدمرها بوهم أنها بذلك إنما تدمر الغلط أو »الخروج على الأصول« أو »الكفر« والانجراف وراء الخطيئة والضلال المبين.
بمعنى ما فإن المعتدي »ضحية« تطرفه، حتى وهو في موقع أداة الجريمة ومنفذها. ولا يشفع له هنا أنه »مسيحي« قد اعتدى على مرجع ديني »مسيحي«، فالمتطرفون (أو هذا النوع من الأصوليين) لا يعتدون في الغالب الأعم إلا على شركائهم في الدين… فأما الآخرون فكفرة وحسابهم على الديان في الآخرة، وأما »الخارجون« على الأصول فيتولى »تأديبهم« هؤلاء الذين نصَّبوا أنفسهم قيّمين على الدين ومبادئه وقيمه الأصولية في هذه الدنيا، ولا يترك أمرهم إلى يوم الحساب، وإلا عمّ الكفر والفساد والضلال وفَسُد الملح.
الأصولي المسلم »مكلف« بتأديب الخارج على الإسلام من المسلمين، والأصولي المسيحي »مكلف« بتأديب الخارج على المسيحية من المسيحيين.
كل متعصب ينتدب نفسه لتشويه دينه وتنفير الناس منه… وهو قادر على أداء هذه المهمة التي يراها »مقدسة«، بكفاءة أعلى بما لا يقاس من »الأجنبي« أو »الغريب«.
وها نحن في لبنان، ومرة جديدة، نتثبت بالملموس (وبالمرئي والمسموع) أن التطرف يرتد إلى داخل بيئته بالعداء فيفجرها ويشوّه صورتها العامة.
بالمقابل، أو بالاستطراد، فإن التطرف يقدم شهادة لا تنقض على خطورة المرض المستشري في المجتمع، ويفضح انحدار أو تراجع أو انعدام العمل السياسي، فضلاً عن عجز الدولة، كمؤسسة، عن تشكيل الناظم الاجتماعي لمواطنيها.
فما احتل التطرف الديني من مساحة إلا تلك التي تعجز »الدولة« عن ملء فراغها أو يخليها تدهور العمل السياسي الذي كثيراً ما اضطر في لبنان الحرب وما بعدها إلى التستر بالشعار الديني أو استعارته ولو مموهاً لكي يبقى على صلة ما »بالجماهير« التي دفعتها الخيبة وهزيمة مشروعها المدني إلى »الإيمان« عائدة إلى »الينابيع« في فجر المسيحية أو فجر الإسلام.
لا ينمو التطرف ولا يتعاظم تأثيره إلا في ظل الإفلاس السياسي: تراجع الدولة كمشروع توحيدي، أو انهيار العقائد والأفكار والمبادئ التي كانت تؤطر الجماهير وتدفعها لبناء جنتها على هذه الأرض.
إن العودة إلى الشعار الديني لا تعني أكثر من الارتداد نحو »المقدس« باعتباره »مخرج النجاة« من الهزيمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية ومن ثم الأخلاقية.
وفي أيام ازدهار العمل السياسي، داخل لبنان ومن حوله، كان التطرف بمختلف أشكاله الأصولية هو الطرف الأضعف في الصراع، وكانت الأحزاب والمنظمات والأنظمة التي ترفع الشعار العقائدي تحتل المسرح وتقود حركة المجتمع. وبقدر ما ظهر إفلاس هذه القوى التي حملت راية التغيير في اتجاه التقدم وبناء القوة الذاتية ومواجهة المشاريع والمخططات والسياسات المعادية كان الفراغ يستدعي التطرف الديني باعتباره الملجأ الأخير.
فالتطرف هو ابن شرعي للفراغ السياسي، للهزيمة في المواجهة مع المشروع الصهيوني، للاندحار في مواجهة الغرب عموماً، وللعجز عن صياغة مشروع سياسي وطني عربي قابل للحياة.
إن التطرف الديني، وحيثما ظهر، سواء في بيئة إسلامية أو في بيئة مسيحية، هو شهادة على فشل النظام السياسي في بناء »الدولة« بوصفها الحاضنة الأولى والمرجع الأخير لجميع أبنائها الذين سينتقلون معها وبها من رعايا الطوائف والمذاهب (والعشائر) إلى مرتبة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات.
وفي مجتمعات متخلفة، كمجتمعاتنا العربية، لا بديل من الدولة كعامل توحيد وبوليصة تأمين للحياة المشتركة. فمعظم الدول، هنا، كيانات سياسية أنشأها الصراع بين الطموح إلى الاستقلال وإجلاء المستعمر والرغبة في التحرر والإمساك بالقرار الوطني.
لم تكن هذه المجتمعات دولاً من قبل، ولم تكن موحدة، بل هي كانت وما زالت تحمل عوامل الانقسام في ذاتها. والدول إنما قامت (أو أُقيمت) فيها بقرارات سياسية هي محصلة الصراع بين الطموح الوطني محدود القدرات وبين المصالح الاستعمارية داخل بيئة عشائرية، في الغالب الأعم، ترتكز إلى قاعدة هشة من الائتلافات الطائفية والمذهبية على قاعدة المشترك من المصالح والمنافع والحاجة إلى حماية الذات.
فالدولة مؤسسة طارئة على المجتمعات العربية… وهي بعد قيد التكوين أو قيد التأسيس. ولأنها طرية العود بعد فإن خطر التطرف يتهدد وجودها ذاته.
* * *
ليس الاعتداء على المطران غريغوار حداد حادثة فردية طارئة أو خارجة عن سياق التحولات التي شهدها ويشهدها »مجتمع ما بعد الحرب« في لبنان، إذا ما سلمنا جدلاً بأن »الحرب« فيه قد انتهت فعلاً.
إن الفصول الأكثر دموية في الحرب الأهلية في لبنان إنما كانت بين المتطرفين داخل الدين الواحد، بل داخل الطائفة الواحدة.
… وهي حروب ما زالت مستمرة، وإن كانت البنادق قد غابت عنها، ولله الحمد!
لعل التطرف قد زاد في »بيئة« عنه في »بيئة« أخرى، فانعكست الآية مع تبدل طارئ على المتهم باحتكار السلطة أو بالهيمنة عليها… لكن الانتخابات النيابية، كلية كانت أو فرعية على وجه الخصوص (معركة المتن الشمالي) قدمت شهادة ناطقة على استعار نار التطرف داخل البيئة الواحدة، مما يهدد الهيكل كله بالحريق!
غريغوار حداد هو »نحن« جميعاً في هذه اللحظة.. وحمايته أبسط واجبات الدفاع عن الذات، عن المجتمع، عن الدولة.
كل منا مهدد في محيطه، ومن محيطه، إن لم نتنبّه إلى هذا الخطر الداهم والذي له في كل منطقة في لبنان رموز وناشطون وتجمعات وقياديون ومهووسون لا يجدون في »الصفع« تأديباً كافياً للمارقين، بل يطالبون برؤوسهم وقد يطلبون بأنفسهم هذه الرؤوس (وقد حان قطافها).
في هذه اللحظة على المجتمع أن يحمي نفسه، وأن يتحرك ليجبر الدولة على حماية وجودها بتأمينه ضد من يتجرأ على وحدته وحاضره وغده عبر الاعتداء على من يختصرنا جميعاً الآن: المطران غريغوار حداد

Exit mobile version