طلال سلمان

غارة وارن كريستوفر

أسوأ من إلغاء الزيارة الأميركية المرتجاة الى لبنان هو التبرير الأميركي الرسمي للإلغاء،
فالضحية ليست أرض أمان لينزل بها الوزير وارن كريستوفر ولو لساعات،
… بينما سماؤها وبحرها وأرضها مجالات أمان للطيران الحربي الإسرائيلي، وللبوارج والزوارق الاسرائيلية، وللمدفعية الثقيلة الاسرائيلية.
وهكذا يكون وارن كريستوفر قد شنّ على لبنان واللبنانيين، المتطلعين بكل أشواق العمر إلى الأمان، غارة أقسى من مجموع الغارات التي شنها، على امتداد ثلاثة عشر يومù، وما زال يشنها، الطيران الاسرائيلي وجميعه أميركي المصدر، أميركي الصواريخ والقذائف والقنابل العنقودية منها والانشطارية والفراغية، التي أسهمت معù في إحراق الجنوب أرضù وبشرù وفصله عن سائر أنحاء وطنه الصغير.
.. مع ان اللبنانيين جميعù قد عرفوا فسلَّموا بأن الحرب الاسرائيلية، إنما تمت وتستمر بقرار أميركي،
ومع أنهم فهموا فتفهموا أسباب »مطاردته« الدؤوبة، التي لا تخفي الاستهانة الجارحة بالمبادرين الآخرين الذين جاؤوا للتوسط من أجل وقف إطلاق النار،
انه يريد، في كل لحظة، أن يعلن وأن يستوثق من أن العالم كله قد تبلغ: ان من أطلق هذه الحرب هو وحده من يوقفها، وأن لا مكان لوسيط ثان، سواء أكان حليفù قديمù ثابت الولاء، كالفرنسي، أو عدوù قديمù انقلب على رأسه ومد يده مستعطيù »الصداقة« بعدما تعذرت »الشراكة« من موقع ضعفه الجديد، كالروسي.
وبالتأكيد فإن كريستوفر لم يكن معنيù بأن يسمع ما قاله الرئيس الياس الهراوي في الأمم المتحدة عن »دماء الأبرياء« و»ذبح الأمل«، و»الأرض المحروقة« و»سلام الإجرام« و»ظلم العدوان«، أو عما يُطالَب لبنان بدفعه ثمنù »لسلام الآخرين« بعدما دفع ثمن »صراعات الآخرين«!
على أنه ربما أبلغ بأن الخطاب الذي اتسم بالعاطفية، وتوجه في جزء أساسي منه إلى »الشعب الاسرائيلي«، قد أغفل قصدù أي ذكر للمقاومة، وأي اتهام بالتصريح أو بالتلميح الى المساندة الأميركية لإسرائيل، مع وقفة بالمناشدة أمام تمثال الحرية الذي يستقبل القادمين الى نيويورك..
لعل ذلك قد يطمئن كريستوفر فيُخرج لبنان من الكرنتينا ويعلنه »منطقة الأمان« للأميركيين!
على أن ذلك لن يبدل حرفù مما كتب: فمن قرر الحرب لا يؤخذ بالمناشدة العاطفية ولا تهزه صور الأطفال المقتولين، وإنما ينتظر تحقيق أهدافه ليأمر بوقف النار… فالأهداف خلف جثث المقتولين والبيوت المحروقة والطرق المقطوعة بالنار.
* * *
الجنوب ليس ارض أمان لإسرائيل وسكان مستعمراتها في الجليل،
وبيروت وصولاً الى بعبدا ليست ارض أمان للحوامة التي كان يفترض ان تقل وارن كريستوفر من قبرص،
والأمان في بيروت مرتبط بالأمان في كريات شمونة،
انه الشعار الاسرائيلي نفسه مدبلجù الى الانكليزية باللكنة الأميركية المميزة،
بل لعل الوزير الأميركي يذهب الى أبعد مما يريده او يطلبه شمعون بيريز، فهو يجعل أمان كريات شمونة مقابل الأمان في لبنان كله… والأمان للاسرائيليين ولو على حساب اقتتال اللبنانيين، او ربما »بفضل« مثل هذا الاقتتال المتوهم او المرتجى اسرائيليù.
لكأن دماء اللبنانيين هي الجسر الوحيد الى زعامة اسرائيل التي تريد إدارة كلينتون ان تنصب شمعون بيريز على سدتها،
فهي تحاول إيهامهم أن »أمانهم«، ومثله »امان الاسرائيليين« مرتبط كل الارتباط بوصول بيريز الى الزعامة، متحررù من قيود معارضته الليكودية المتطرفة (!!)، بحيث يمكنه التفرغ من بعد لصنع »السلام«، متكئù على سجله الدموي الجديد، وفي يديه رؤوس جميع المعارضين لسياساته في الداخل والخارج وعلى امتداد »الشرق الاوسط الجديد«.
وإذا كانت المعارضة الليكودية تدفع بيريز الى الإيغال أكثر فأكثر في بحر الدم، وتشجعه في كل لحظة، فإن بعض المسؤولين العرب يؤكدون له صحة توجهه هذا،
وبالتأكيد فإن كلامù كالذي قاله الملك حسين، امس في عمان، سيكلف اللبنانيين مزيدù من الضحايا والبيوت، بحيث باتوا يتمنون لو ان »تعاطف« الملوك يظل »أخرس« فلا يعتذرون عن عجزهم (!!) بما يحرض بيريز على المزيد من القتل،
* * *
وحده الصمود يمكن ان يقرب موعد وقف إطلاق النار، بشروط مقبولة لا يُهدر معها دم الضحايا هباءً.
فليس المهم ان يأتي كريستوفر الى لبنان ليستوفي الشكل اللازم للوسيط، بل المهم كيف يأتي وماذا سيحمل معه.
وطريق دمشق بيروت هي الأقرب لمن يحمل ما يطمئن الناس،
… خصوصù ان امان اللبنانيين لا يهبط بالمظلة من خلف ظهر السوريين،
كما ان المقاومة تظل حتى إجلاء المحتل الاسرائيلي أحد مصادر الأمان، وإحدى ضماناته الفعالة في مقابل »سلام الاجرام« الذي أشار اليه الهراوي في ندائه الى العالم من فوق منبر الأمم المتحدة، أمس.

Exit mobile version