طلال سلمان

غارة عدو واحد

هي غارة نموذجية في استهدافها وفي توقيتها وفي دلالاتها السياسية: لقد أعلنت إسرائيل الحقيقة التي يهرب منها الكثيرون منا، وهي أن العرب وحدة لا تتجزأ، وهم مجتمعون »العدو«، لا فرق بين لبناني وفلسطيني وسوري (ومصري)، وبديهي أنها لا تميز بينهم لا بأديانهم ولا بطوائفهم ولا وفق آرائهم السياسية.
إن المقاومة في لبنان هي الانتفاضة في فلسطين وهي القوات العربية السورية، وكل عربي يرفع صوته بالاعتراض فكيف إذا رفع يده بالسلاح أو حتى بالحجر دفعا للعدوان وحماية للوجود، ناهيك بشرف الوجود.
لم تكن مصادفة، ولا هي حادثة فريدة، أن توجه إسرائيل طائراتها ومدافعها إلى »أهداف« فلسطينية ولبنانية وسورية في لبنان، في وقت واحد معا: هذه هي القاعدة عندها، وإذا ما حصل خروج عليها أو شواذ فمصدره الطرف العربي!
* * *
في ما يخص لبنان، فقد حسمت دماء الشهيد السوري (الجديد) على الأرض اللبنانية، المجند نبيل عباس، بعض عناوين الجدل الدائر، منذ حين، وبشيء من الاحتدام بين القوى السياسية والمراجع الدينية ورموز السلطة حول الوجود العسكري السوري في لبنان، بمقاصده وأغراضه واستهدافاته والجدوى من استمراره.
أما أساس الجدل، أو منطلقه، فقد حسمه المنطق السياسي لحكومة الحرب الإسرائيلية الجديدة برئاسة الجنرال أرييل شارون ومَن معه، حين أعلنوها صريحة، بل وجارحة للكرامة والمشاعر الوطنية: »ان الهدف من الغارة على موقع الرادار السوري في ضهر البيدر إنما يستهدف المشاركة في السجال الداخلي لتصديع العلاقة اللبنانية السورية«.
إذن، وببساطة ودون رغبة في اتهام أي من الأطراف التي دفعت بالسجال السياسي إلى حافة خطر الانقسام الوطني، فإن إسرائيل تقول علناً إنها المستفيد الأول من إثارته، وبهذا التوقيت، وبهذه الحدة… وهي لا تكتفي بالفرجة أو بمتابعته من بعيد ومحاولة توظيفه لاحقا، بل انها تؤججه وتشارك فيه مباشرة، وبقوتها العسكرية بغير تمويه، مفترضة أنها بذلك تدفعه الى ذروته المرجوة: أي التصادم بين اللبنانيين من حول سوريا، بما يضعف لبنان وسوريا معاً.
* * *
لقد أصابت الطائرات الاسرائيلية هدفها العسكري السوري في ضهر البيدر، والذي كان جنوده قد أخلوه لأنهم رصدوا حركة طائرات العدو وقدرت قيادته انه قد يكون بين أهداف القصف،
لكن التقدير السياسي الاسرائيلي كان خاطئا الى حد انه ارتد على من وضعه وراهن عليه، فكان دوي الفشل السياسي أعلى صوتا من دوي الانفجار في ضهر البيدر، وكانت أضراره على السياسة الاسرائيلية أعظم بما لا يقاس من نتائجه العسكرية المباشرة.
أسقطت الغارة مقولات وادعاءات وطروحات سياسية بالغت في الاعتراض الى حد السقوط في مستنقع العنصرية وهي تندفع في حملتها على السوريين وكأنهم أعداء الوجود اللبناني، وأعداء اللبنانيين كبشر لهم الحق في الحياة، وفي الحرية والسيادة والديموقراطية والاستقلال والعنفوان..
ونبهت الغارة بعض من لهم اعتراضات سياسية على الحكم وممارساته، أو على الدور السوري في لبنان ووجوه ممارسته، الى أن هذه الاعتراضات، وبعضها مشروع، انما تناقش في جو من الاخوة، ليس بالمعنى العاطفي للكلمة، بل بوعي لوحدة المصالح ووحدة المصير، المهددة جميعا بالخطر الاسرائيلي الداهم والدائم، والذي لم ينته مع خروج قوات احتلاله من معظم الأراضي التي كان يحتلها في الجنوب والبقاع الغربي، بل هو مستمر بالسياسة متى عجز عن استخدام آلته الحربية،
ولا بد من التنويه، في هذا المجال، بالموقف الحكيم الذي صدر عن البطريرك الماروني الكاردينال صفير، والذي عاد فيه الى الثوابت في العلاقات اللبنانية السورية، معلنا التضامن في مواجهة العدوان، مرجئا أي نقاش في المواضيع الخلافية.
ليس لدى البطريرك طائرات، ولكن رده على الغارة الاسرائيلية، بدلالاتها السياسية، كان أقوى تأثيرا من الصواريخ الموجهة عن بعد والتي تصيب أهدافها بدقة فائقة، ولكنها تعجز عن صنع السياسة أو تبديل المواقف المبدئية.
***
لم يختلف الجو كثيراً على المجند نبيل عباس، حين جاء مع وحدته ليستقر فوق تلك التلة في ضهر البيدر المشرفة في آن على بعض البقاع والشوف والمتن الجنوبي، كواحد من طاقم الرادار المؤهل لكشف نوايا العدو من قبل ان تتفجر حرائق ودماراً وقتلاً مقصوداً.
فهذا المجند الآتي من »صلنفة«، مصيف اللاذقية وسائر الساحل السوري، تفتحت عيناه على اللون الاخضر للغابات التي تغطي تلك الهضاب المتدرجة من البحر في اتجاه الاعلى والاعلى… ولعله لم يحس يوماً بالغربة، لا وهو يحادث »اخوانه« اللبنانيين، ولا وهو يرصد طائرات العدو واحتمالات اغارتها عليه وعليهم. لقد جاء ليعيش معهم، من دون ان يلغي احتمال الموت او الاستشهاد في سبيلهم… فلقد تفتح وعيه على ان المعركة واحدة، والمصير واحد، والعدو واحد.
وهو قد اثبت هذه الحقيقة بدمه.
تحية للشهداء الذين من اجلنا يموتون، حتى ونحن ننساق مع الخطأ الى حدود الغرق مرة اخرى في حمأة الحرب الاهلية لصاحبها العدو الاسرائيلي!
تحية لهم في غزة والضفة وكل بقعة من فلسطين، وفوق ارض لبنان، وسواء أكانوا لبنانيين أم سوريين أم فلسطينيين..
العدو واحد. المعركة واحدة. المصير واحد.
وللشهداء الاسم المبارك ذاته.

Exit mobile version