طلال سلمان

غارات”الناعمة”وتواقيع موقعين

ما زالت اسرائيل في الحرب، لم تخرج منها ولا هي بصدد الخروج، أقله في المدى المنظور.
وهي تكرر هذه الحقيقة على مسامع العرب خاصة، والعالم عامة، بغير تحرج، او مداراة او خوف على مستقبل »العملية السلمية«.
فالمفاوضات، كما تراها اسرائيل، هي فرصة لتحقيق كل اهداف الحرب من دون حرب، فإذا تعثرت فسلاح الجو الاسرائيلي المزود بأحدث الطائرات الاميركية وأدق الصواريخ وأعظم القذائف تدميرا جاهز للتدخل و»تصويب المسار«!!
وها هي الطائرات الحربية الاسرائيلية تستأنف غاراتها على مدخل بيروت (وهي في اي حال لم تغب عن السماء اللبنانية ابداً) لتقول ان الحرب خيار اسرائيلي دائم، بالمفاوضات او من دونها، وان الوسيط الاميركي مقبول طالما ساعد على »اقناع« العرب بتلبية الشروط الاسرائيلية من غير حرب، فإذا اما خذله العرب او أفشلوه تجاوزته اسرائيل لتحاول ان تحقق بيدها ما عجز عنه بضغوطه الدبلوماسية »الناعمة«.
واسحق رابين يعرف تماما ما يفعله: انه يضرب لبنان، ويضرب سوريا عبر لبنان، ويضرب روح المقاومة المتجددة داخل فلسطين المحتلة، ويضرب محاولات التمرد المصرية، ويضرب قمة الاسكندرية كجهد لوقف التدهور في الموقف العربي، اي لوقف الاستسلام العربي الذي يتوالى فصولا بعد هزيمة غزة اريحا التي تكاملت ابعادها بالاتفاق الاردني الاسرائيلي ثم بالانهيارات المغربية والخليجية.
والغارة الجديدة رسالة واضحة المعاني، ثم انها تذهب مباشرة الى العنوان المقصود،
إنها اعلان صريح عن طبيعة المرحلة اللاحقة، بعذ تعثر محاولة انقاذ المفاوضات السورية الاسرائيلية والتي رعتها واشنطن بحرارة ملحوظة،
إن اسرائيل تبلغ لبنان، بهدير طائراتها الاسرع من الصوت، ان »الشفاعة« الاميركية لن تعفيه من العقاب، طالما استمت المقاومة تضرب الاحتلال، لا فرق أضربته داخل الاراضي اللبنانية ام حاولت الوصول اليه داخل الارض الفلسطينية المحتلة.
وصحيح ان الاقفال الاضطراري لمطار بيروت لم يطل، امس، لكنه قد يطول في غارات لاحقة لن تجد من يمنعها،
واذا كانت واشنطن قد وافقت اخيرا وبعد تردد طويل، على فتح الملف الامني مع السلطة اللبنانية، وفقا لمفهومها وبشروطها غير المستساغة، فإن تل ابيب بغاراتها امس تعود لتمسخ قضية لبنان السياسية ممثلة بوقوع ارضه تحت احتلالها، مقدمة »اقتراحها« لحل »المسألة الامنية« في لبنان بطريقتها الخاصة.
وكالعادة، فإن اسرائيل تضرب عسكريا كلما احست بأن اهدافها السياسية الطموحة لا تجد طريقها الى التنفيذ، على الاقل بالسهولة التي تتوقعها.
وهي تضرب في »مركز الدائرة«، اي حيث تضمن ان الصدى سيصل الى العواصم جميعاً: دمشق بداية، وواشنطن في النهاية.
لكأنها تطمئن عرب اتفاقات الاذعان، والراكضين الى صلح مستحيل، انها قادرةة على اضعاف دمشق عبر بيروت، بحيث يتعذر عليها ان تستمر في اعتراض طريقهم اليها.
ولكأنها تجدد »نصيحتها« الدائمة لأصدقائها الاميركيين: »دعوني اتعامل مع العرب، وبالتحديد مع الرافضين او الصامدين منهم بأسلوبي، فأنا أعرَف بهم منكم، انهم لا يفهمون الا لغة العصا والعصا معي…«.
والغارة على الناعمة امس، هي هجوم على هدف صغير، لكنه قد يكون تمهيدا للعودة الى ما قبل المفاوضات والعملية السلمية ومؤتمر مدريد.
او لعله اعلان اسرائيلي بأن مؤتمر مدريد قد حقق اغراضه وانتهى بمجرد توقيع عرفات ثم الملك الاردني حسين، وبغض النظر عن العلاقة بين البدايات »الشاملة« والنهايات »المنفردة«.
… والحروب العربية العربية
… وكيف لا تضرب اسرائيل، في لبنان كما في داخل فلسطين، طالما ان العرب ما زالوا مشتبكين في حروب اخرى بما لا يقاس من »حروبها« عليهم.
ففي حين كان الطيران الحربي الاسرائيلي يضرب بوابة بيروت، كانت نذر الحرب بين السعودية واليمن تزيد في قتامة الجو العربي وتهبط بأي مواطن الى لجة اليأس البلاقرار…
والحقيقة ان كثيرين اعتبروا مشاركة السعودية في قمة الاسكندرية نقطة تحول في سياسة هذه المملكة التي تعيش حالة توتر شبه دائم، سواء أُعلن ام لم يعلن، مع كل جيرانها الاشقاء.
ومع ان بعض هؤلاء الجيران قد تعذروا بما يعتبرونه تهديدا سعوديا ومطامع سعودية في ارضهم ليندفعوا في اتجاه اسرائيل، فإن خطيئتهم هذه لا تحجب الخطأ السعودي في السلوك مع اولئك »الاشقاء«.
والمملكة مطالبة، ربما اكثر من غيرها، بأن تفض الاشتباك مع الجميع، وبأن توقف حربها المفتوحة ابدا مع اليمن، وسواء أكان الحاكم في صنعاء الامام يحيى حميد الدين ام عبد الله السلال ام ابراهيم الحمدي ام علي عبد الله صالح.
ولا يحتاج المراقب الى كثير من التدقيق ليتبين ان السعودية هي مصدر التوتر: فهي الاقوى والاغنى والاعظم نفوذاً.
حتى لو رأى البعض شبهة تحريض اميركي لصنعاء، لتطويع الحكم السعودي وتدجينه وكسر هيبته ولحساب واشنطن دائما، فإن ذلك لا يعفي المسؤولين السعوديين من مسؤوليتهم المباشرة في اعطاء »الحليف الخارجي« اكثر من حقه، وحرمان الاخ الشقيق من ابسط حقوقه الطبيعية في ارضه وفي حسن الجوار مع »الشقيقة الكبرى«.
إن الحرب الاسرائيلية مفتوحة، وعلى العرب جميعا، وستبقى مفتوحة مهما توالت التواقيع العربية على وثائق الاستسلام، وطالما استمرت روح المقاومة في صدور المؤمنين بالله وبأرضهم وبحقوقهم كبشر.
وهذه الغارات على بوابة بيروت امس، هي غارات على كل العرب، فإسرائيل قبل المفاوضات هي اسرائيل في المفاوضات وهي اسرائيل بعد المفاوضات.
وحدهم العرب يتغيرون ويذهبون في الاتجاه الغلط، ومع ذلك تظل الطائرات الاسرائيلية تطاردهم لإلغاء حقوقهم في ارضهم وفي مستقبلهم،
وحدهم العرب يذهبون الى الانتحار ومحاربة الذات بدل ان يحاولوا »حماية جنسيهم« المهدد في وجوده!
طلال سلمان

Exit mobile version