طلال سلمان

»عيش لبنان« مشاهد من قارات خمس

في خمسة مشاهد متباعدة متكاملة، من »القارات« اللبنانية الخمس، جمعت بينها مصادفة التزامن، يمكن اكتشاف حجم التناقضات والمفارقات في هذا »العالم اللبناني« الفسيح بأكثر من مداه الجغرافي بكثير، الفقير بموارده التي تتناقص سنة بعد سنة، الغني بإنسانه الذي يتركه بزيادة مضطردة الى المهاجر شهرا بعد شهرا، الجميل بطبيعته التي يستهلكها الإهمال (الشعبي والرسمي) ويفسد بيئتها سوء الإدارة و»احتقار« التنظيم إضافة الى الطمع بكل ما هو »عام«، مالاً كان أم أملاكاً بحرية أو جبلية أو حرشية أو مخابرات هاتفية لا فرق، الفريد بديموقراطيته العشائرية الطائفية التي استنبتت نظامه الفريد.
لتكن البداية، حسب أصول البروتوكول:
1 المشهد الأول من الزيارة الرئاسية التي أعطت »العكاريين« يوم عيد، أمس إذ جعلت صورهم ولمحات من بلداتهم وقراهم تظهر على شاشات التلفزيون، وهي ترتدي زينتها الكاملة، كما أعطتهم موضوعا للحديث قد يمتد طويلاً، بطول المسافة بين الزيارتين الرئاسيتين (57 سنة من أصل 60 سنة استقلال..).
عبر الموكب عاصمة الشمال متعجلاً، ومن بعض أطرافها، حتى »لا عين تشوف ولا قلب يوجع«، كما يقول المثل، فطرابلس التي تعيش حالة من القهر نتيجة الإهمال الرسمي الدائم، يئست من الشكوى ومن تردي أحوالها حتى كادت تنسى تاريخها حين كانت في بعض جوانب حياتها العامة (الخدمات كالمستشفيات والمدارس) وفي بعض تراثها المعماري، تنافس بيروت وسائر العواصم، واستسلمت لقدرها عنوانا لمحافظة »مضطهدة« لأسباب لا تعرفها بالضبط، وإن عرفتها فهي خارجة عن إرادتها، وقد كانت ضحيتها أيضا، لكن العقوبة مستمرة!
بعد طرابلس مباشرة وبين البداوي والمنية امتدادا الى حلبا »أوتوستراد الموت« الذي لا تكاد تفرغ ورشة من إصلاحه حتى تذهب ورشة أخرى لإصلاح ما أفسدته الورشة السابقة، ربما بسبب الحرص على طلب الكمال، والكمال لله وحده.
في الأعلى »الضنية« التي لم يسمع الناس بها منذ دهر إلا حين اعتصم في بعض جرودها بعض الغلاة من »الجماعات الإسلامية« الذين حاولوا تبرير »تمردهم« بالإهمال الدائم وشطبهم من ذاكرة »الدولة الكافرة«..
فأما »بلاد عكار« فكانت في أحلى زينتها، ترد التحية بأحسن منها لمضيف الرئيس والذي أعاد إليها بعض اعتبارها، عصام فارس، خصوصا وقد نجح في استدراج »الدولة« للتعرف الى تلك البلاد وأهلها الذين كانوا على الدوام جنوداً للدولة يعطونها أبناءها ثم يخافون منها، يحبونها كثيراً ولا يشعرون أنها تبادلهم عاطفتهم الصادقة، بل غالبا ما تنكرت لهم حتى لا نقول إنها أنكرتهم.
ولأن العكاريين طيبون، يؤمنون بالدولة، ويحفظون الجميل لمن يتعامل معهم بكرامة فقد استقبلوا رئيس الجمهورية بما يليق، وأنعشوه في لحظة هو فيها في أمسّ الحاجة إلى إنعاش، لكي يخوض الجولة العاشرة (العشرين؟) من صراعه المفتوح مع شريكه اللدود وفريقه القوي في الحكومة التي لا تجمعها إلا جلسات مجلس الوزراء.
2 المشهد الثاني في »بلاد بشارة« أو »بلاد عاملة«، أو »الجنوب المحرر«، حيث افتقد الأهالي بهجة العيد الذي اصطنعوه بدمائهم. سمعوا الأغاني في الإذاعات، ورأوا الأعلام ترفع على المراكز الرسمية، ووقرت آذانهم خطب عصماء تتردد فيها كلمات مفخمة عن بطولاتهم في الصمود وفي المقاومة، وعن حقهم على دولتهم وعلى العرب (وعلى العالم)… ولكنهم افتقدوا ما يقيم الأود وما يحفظ في الأرض أهلها الذين رأوا أنفسهم مجبرين مرة أخرى على مغادرة بيوتهم في قراهم الفقيرة بمواردها وفي مدنهم الريفية حيث المدخول الأساسي ملقى على عاتق شتلة التبغ الضعيفة أو على الزيتونة التي لا يكفي محصولها لرعايتها…
صار الأهالي زوارا، يذهبون في العطل الرسمية لتفقد البيوت، ولإلقاء نظرة على »عدوهم« خلف »الخط الأزرق«، وكيف يحصن »حدوده« بالمستعمرين المستقدمين من أربع رياح الأرض، في حين يضطرون هم الى العودة للتكدس في البيوت الضيقة والناقصة الشمس والتهوية في ضواحي بيروت المزدحمة بالهموم والضجيج وبؤس الدخل الذي إن كفى للأكل لم يكف لسائر ضرورات الحياة.
على ان المفارقة الأعظم تبدو في المسافة الفاصلة بين جهد الأهالي لإعمار »بلادهم« وجهد الدولة لحفظهم فيها، وحفظها بهم: لقد ذهبوا الى أقصى الأرض، كدحوا حتى تعب منهم التعب، واقتحموا الأدغال والصحارى، وماتوا ألف مرة، ثم عادوا بما جنوه ليعمروا ديارهم، فابتنوا أجمل الدور (والقصور أحيانا)، وحفروا الآبار، واشتروا مولدات الكهرباء وزرعوا الأرض وشجروها، لكنهم بعد ذلك كله اضطروا الى الرحيل مجددا نحو بيروت لأنهم افتقدوا في »بلادهم« المستشفى والمدرسة والخدمات العامة، ومن يشتري منهم محاصيلهم ولو بسعر الكلفة!
بغير قصد، بل رغم أنوفهم، انعقدت مقارنة ضمنية يكرهون مجرد التفكير فيها، بين أوضاعهم أيام الاحتلال ووضعهم الآن وبعد سنتين من التحرير. ولم تكن المقارنة مبهجة!
3 المشهد الثالث من »بلاد بعلبك«، في البقاع الشمالي، وهو لحفلة مصالحة عشائرية لإنهاء خصومة تاريخية معقدة يختلط فيها الطائفي بالسياسي.. برعاية رسمية… أما خلفية المشهد فتتمثل في الحقول المبقورة البطون لانتزاع المزروعات الممنوعة منها. قال احد الظرفاء: عشنا وشفنا »الهليكوبتر« تحوم فوقنا، ومصوري التلفزيون والصحف ورجال الاجهزة جميعاً في » ضيافتنا«، وقد جاءوا لتصويرنا كمشاريع عصاة او متآمرين على الاجيال الشابة (في العالم كله) نريد قتلهم بالمخدرات!. اما نحن فلا نريد اكثر من ان نعيش من ارضنا وفيها. فاما الزراعات »الشرعية« والتي طالما شقينا في رعايتها فانها لا تقيم الأود. نسقيها بعرق الجبين، ونرعاها على مدار العام، ثم يقتلها ضيق السوق وتحكم محتكري التصدير، فاذا سعر البيع اقل من الكلفة، واذا ابناؤنا يهجرونها طلباً لاي عمل، باي اجر، عاجزين عن اكمال تعليمهم، وعاجزين عن توظيفهم لان الدولة اقفلت باب التوظيف… حتى باب التطوع في الجيش قد اقفل، اما الدرك فيجب ان تكون من اصحاب الحظوة او من القادرين على دفع الرشوة لتدخل نعيمه… علماً بان ابواب جنته تفتح مرة كل حكومة ثم تغلق حتى يعود الوزير وزيراً ليبقى!
4 المشهد الرابع من المتن الشمالي، وهو بعض »قلب لبنان« كما رآه امين الريحاني، في الجغرافيا، وبعض »السر الديموقراطي« الذي لا يعرف حل ألغازه الا اللبنانيون: وهذا السر تشكل من مزيج من العائلية المكينة والطائفية العريقة والمذهبية الوطيدة الاركان والتدخل الرسمي »المشروع« لينتج »مؤسسة التشريع« حيث لا يمكن اصدار القوانين، في الغالب الاعم، الا بعد صفقات سياسية تغطي صفقات منافع متبادلة بين مواقع النفوذ.
ولان الديموقراطية ارث عائلي تنتقل من الاب الى الابن او الابنة، ومن العم الى ابن اخيه، فان تقدم الشقيق الى المنافسة قد يشكل جنوحاً الى الدكتاتورية بقدر ما قد يتيح تحالفات بين مختلفين، او خلافات بين حلفاء… وما الديموقراطية غير ذلك؟!
5 المشهد الخامس، وهو كأي خاتمة لا بد ان يكون اعلانا عن السعادة، فيمكن التقاطه من »وسط بيروت«، ما تحت السراي الكبير، وصولا الى ما فوق ساحة الشهداء بقليل، عند شارع مونو (وهو ليس شارعاً ولكنه صار معلماً سياحياً يكاد يوازي في شهرته سوهو لندن او الحي اللاتيني في باريس)..
»وسط بيروت« صار اهم من مدينته الجريح… بل هو الان مفخرتنا الجديدة بعمارته الانيقة المتوهجة ليلا بالسواح الداخليين وضيوفهم من »عرب الثروة« الذين اشتروا مساحات واسعة منه، ومن الشاطئ القريب الممتد خلفه، والدولة هنا، عبر رجالاتها، ضيف ليل، كأي »زبون« يقصده طلباً »لنفس نارجيلة« او لجلسة سمر بريئة تماماً من اي دنس.
فاما الاجيال الجديدة فتتزاحم بالمناكب والاقدام في تلك الزواريب الضيقة التي تتداخل وتتقاطع لتشكل ليل بيروت المنتشي بزخم الشباب وصخب الموسيقى ومتعة اللحظات المسروقة من داخل نهارات الازمة الاقتصادية الممتدة طوال العمر.
»عيش لبنان«. هذا شعارنا الجديد بدلا من »عشتم وعاش لبنان«.

Exit mobile version