طلال سلمان

عيد بين مشهد حقيقة

المشهد مهيب: تأخذك الرهبة وأنت تتابع مواكب ملايين المسلمين الآتين من كل فج عميق ليؤدوا مناسك فريضة الحج، يباشرون الشعائر ذاتها، وتردد شعاب مكة المكرمة أصداء النداء ذاته: »لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك«!لكن المشهد المهيب ليس إلا لحظة إيمانية عميقة، لا يتصل من قريب أو بعيد بالسياسة، بغض النظر عن أحوال هؤلاء المسلمين الآتين من مشارق الأرض ومغاربها، ومدى التشابه أو الاختلاف بينهم، ومصادر الظلم الواقع عليهم، وتلاقيهم في العجز عن ردها، والنهوض إلى مواجهة ظالميهم وناهبي حقوقهم أو حكّامهم الذين يأخذون منهم الدنيا (والدين) ويتركون لهم أن يعزّوا أنفسهم بالسفر إلى الأرض المقدسة وزيارة قبر الرسول العربي والطواف من حول الكعبة، طلباً للغفران وإعلاناً للتوبة، برجاء حسن الختام!مع التأكيد أن الملك لهم،.. حتى وهم يعرفون أن ذلك من خارج واقع الحياة.ليس من جامع في السياسة، وليس من رابط في الاجتماع… وهكذا تضيع فرصة سنوية ممتازة للتلاقي والتحاور والتشاور والتفاهم ولو على الحد الأدنى، أو ـ أقله ـ على تنظيم الاختلاف، بما يمنع الفتن المهلكة (بين المسلمين أنفسهم..) أو يوفر فرصة لتوحيد الموقف من مسائل وقضايا لا يجوز الاختلاف من حولها (في الدين بداية، كما في السياسات التي تخص المتشابهة أوضاعهم والظروف التي يواجهون في بلدانهم وتحت أنظمتهم المتعددة الميول والارتباطات والسياسات)..لا تذويب فلسطين بالاحتلال، وقتل شعبها بالحصار (من الخارج) والصراع على السلطة التي لا تملك من أمرها شيئاً (في الداخل)، يعني هؤلاء الملايين من الحجاج الذين تنهال دموعهم سيولاً كلما ذكرت فلسطين (لا سيما غير العرب من المسلمين)!… وقد يستذكرون أو يهتمون للقراصنة الذين يخطفون السفن طلباً للفديات الذهبية الوازنة، أمام شواطئ الصومال، ولا يتذكرون حصار المليون ونصف مليون من (المسلمين) في غزة التي يموت أطفالها جوعاً في حين يموت أهاليهم حسرة وكمداً وغضباً من تخلي الإخوة وتنكر الأهل الأقربين!ودون أن يجرؤ أحد على اتهام إسرائيل بالقرصنة الدموية ضد شعب عربي ومسلم!.. ولا »تذويب« دولة العراق وكيانها السياسي بالاحتلال الأميركي يشغل دقيقة واحدة من اهتمام هؤلاء المؤمنين الذين جاءوا من كل فج عميق، وإن كانوا قد يتورطون فيظهرون بعض الحسرة، وقد تدمع عيونهم، وقد تمسك الغصة بحلوقهم، وهم يستذكرون مئات الألوف من القتلى والملايين من المهجرين، وتدمير المدن والقرى والجامعات والمصانع، في حمى الاقتتال بين المسلمين والمسلمين، المموّه بالصراع السياسي من حول الديموقراطية (هدية الاحتلال المسمومة)… مع تناسي أن الشعب الذي تضيع منه دولته، ويضيع عن هويته، وتؤخذ منه أرضه، وينزع عنه دينه ليغرق في وحول المذهبية، لن تعوّضه الديموقراطية المكتوبة بالدم خسائره الباهظة التي تلغيه كشعب وتلغي كيانه السياسي كوطن لدولة.لقد تمت التضحية بالعراق من أجل الديموقراطية، فذهب العراق ولم يعرف أهله غير المذابح المنظمة التي يشرف عليها الاحتلال الأميركي ويديرها بوصفها بعض تفاصيل المعركة الرئاسية!أما في لبنان، الذي قد يستذكره العديد من الحجاج بحسرة، أثناء استذكارهم سنوات شبابهم الأولى، فقد تمت التضحية فيه بالديموقراطية من أجل التوافق على قانون انفصالي للانتخابات.. وقد نضحي بالانتخابات، غداً حتى لا نخسر السلام الأهلي وربما وحدة الوطن ودولته!على أن الحجاج قد يعودون بما يطمئن نفوسهم: فالحوار بين الأديان في طريقه لأن يغدو الآن مؤسسة دولية، والأرجح أن يتولى بان كي مون دور الأمين العام، في حين يقوم شمعون بيريز بدور الداعية، وهكذا يتلاقى البشر جميعاً في كرز فعل الإيمان بالله تعالى… وما همّ أن ينام أهل غزة جياعاً، وأن يشارك في حصارهم أهلهم العرب خصوصاً والمسلمون عموماً. مجنون من يفكر بإفشال حوار الأديان الذي يصنع مستقبلاً جديداً للإنسانية من أجل مليون أو بضعة ملايين من المسلمين في غزة والخليل ونابلس والقدس، واستطراداً في العراق، من دون أن ننسى السودان وما خلفه من ديار الإسلام!لقد أجبر العرب ومعهم المسلمون مجلس الأمن الدولي على إصدار تصريح شفهي يندد فيه بوحوش المستعمرين في الضفة الغربية من فلسطين.أما الرئيس الأميركي جورج بوش فقد حاول التغطية على خسارة حزبه المعركة الرئاسية بالقول إن المكتسب في العراق فرصة للمصالحة بين الأميركيين!ليت أن هؤلاء الطائفين بمكة يدركون أن الحروب الأهلية (القائمة أو المحتملة) في بلادهم، بين أبناء الشعب الواحد، وغالباً بين المسلمين أنفسهم، أو بين المسلمين والمسلمين (سنة وشيعة) إنما هي مكاسب للمحتل، سواء أكان إسرائيلياً أم أميركياً أم من جنسيات أخرى (إذا وُجد..).[ [ [لو أن موسم الحج يتحول إلى مؤتمر سنوي للمسلمين، يتداولون فيه شؤون بلادهم، ويحاولون خلاله تحديد مسائل الخلاف في ما بين قادتهم ودولهم، وبهدف تنظيم الاختلاف، حتى لا يخترقهم »الأجنبي«، محتلاً أو مستغلاً، فيقودهم إلى سلسلة من الفتن لا مكان فيها لمنتصر إلا من خارجهم.لو أنهم يرسلون الأضحية إلى أي شعب عربي يحتاجها من فلسطين إلى العراق، إلى أكثر من بقعة عربية تواجه الاحتلال والحصار والجوع.وكل عام، وأنتم بخير… برغم كل المصاعب والمخاطر ومظاهر التفكك والاختلاف على البديهيات!

Exit mobile version