طلال سلمان

عيد الميلاد الرابع والثلاثين..

كان الفجر على بعد رشقة رصاص.

استبق الرصاص الفجر فتدفق الدم حتى غطى وجهي وصدر فؤاد وأطاح بعين حسن، وبعثر الليل بنور طلقاته والتماعات دمائنا فلم نشاهد وجوه القتلة، وان نحن لمحنا أشباحهم تختفي في أرض الفراغ المحاطة بأشجار الكينا وسور الشوك والعوسج والعتمة.

اهتز الصمت للحظات، ثم عادت العتمة تلف المكان، قبل أن يستدعي الدوي قلة من العابرين في قلب الليل، فلما اطمأنوا الى سلامتهم أكملوا طريقهم في قلب الخوف.

بعد لحظات نبهني الدم المنساب على وجنتي حتى عنقي انني ما زلت حياً.. وكان فؤاد قد حمل جراحه وارتقى الدرج الى باب البيت حيث كانت الزوجة والحماة فنزلتا تتعثران بثياب النوم وصرخات اللوعة..

بعد لحظات طويلة، طويلة، طويلة، جاء المنقذ على شكل جندي أسقطت فوضى الحرب الأهلية هيبة ثيابه العسكري، فخفنا منه حتى اطمأنت النساء الى اسمه وكنيته ومنبته فسمحن له بقيادة سيارة الإنقاذ، بينما جاءت سيارات الزملاء فانتقلنا جميعاً الى المستشفى، حيث غبت عن الوعي، بينما استدعت دماء فؤاد النازفة أطباء الطوارئ.

*****

هل تهم الأسئلة في غياب الأجوبة القاطعة والساكنة قبل الليل: من ولماذا؟ وما هي الجريمة؟ وهل تقتل الكلمة ناشرة النور مسقطة الظلام والدالة على الظالمين باعة الأوطان وقتلة شعبهم!

كنت قبل ثلاث ساعات أو يزيد قليلاً، قد عدت الى بيتي من عشاء لدى صديق اختطفه المرض مؤخراً من دنيانا.. واتصلت بالصحيفة للاطمئنان الى سير العمل وآخر أخبار الصفحة الأولى. دخل عامل الهاتف على الخط يبلغني ان “الشيخ رفيق” قد اتصل مرتين، من قبل. اكملت حديثي مع “التحرير” فدخل على الخط مرة ثالثة يقول: ان الشيخ رفيق على الخط!. تبادلنا التحية والسلام وقال: تعالى ننم على الناس! قلت: الوقت متأخر.. سننم غداً. ألح فكررت الإعتذار، ثم عرض أن يرسل سيارته معتذراً بأنه في الجلابية وإلا لكان جاء بنفسه!

كان سائقي فؤاد ما زال في المكتب، فطلبت اليه العودة، فعاد، وقصدنا الشيخ رفيق في البيت الذي كان “يزوره” خلال تردده على بيروت.

لم يكن في اللقاء ما يستحق سفر ما بعد منتصف الليل، فالنميمة تجوز في الأوقات جميعاً.. لكنه ضيق الوقت، ومعه استعجال ما نريده أن يكون..

ثرثرنا، واستغرقنا في تبادل النميمة لساعتين، قبل أن أعود الى منزلي لأواجه الموت، مع رفيقين آخرين، لكن القدر تدخل فنجونا جميعاً، وان نحنا ما زلنا نحمل آثار الجراح في الوجوه والصدور.

*****

اليوم، السبت الواقع فيه 14 تموز، نحتفل نحن الثلاثة بعيد ميلادنا الرابع والثلاثين. ليس ما نعيشه الآن امتداداً لما عشناه من قبل. ثمة حاجز كثيف يفصل بين ساعة الفجر تلك واليوم: نحن قد تغيرنا حكماً بهذه النسبة أو تلك. ان فاصلاً من الدم يقسم الزمن زمنين: ما قبل وما بعد.

لقد دخل الناس في حياتنا، فباتوا بعضها، وأضافوا الكثير الى معناها.

لقد توهج تاريخنا بالدم فصار مضيئاً. لقد اكتسبت الكلمات وهج الدم.

لقد اكتسبت الكتابة شرف الرسالة.. صارت كلمات الناس جميعاً.

صارت تمثل الرأي العام وتعبر عن الحق في حياة بلا إرهاب. قتلت الكلمات مطلق رصاص الخيانة والفجور وتدمير الوحدة ونهب الدولة وانتصر الدم!

وكل عام وانتم وحق التعبير عن الرأي والإعتراض على الطغيان بالكلمة ـ الرمح والرأي الذي لا يسقطه الإرهاب.. بألف خير!

Exit mobile version