طلال سلمان

عودة عربية الى قرار

في زمن الهزيمة لا مجال لأكثر من تحديد الخسائر. ومنع أو تعطيل مشروع الحرب الأميركية على العراق هو »مكسب« طيب كان تحقيقه يبدو متعذراً الى ما قبل أيام قليلة.
لذا فليس غريباً أن تعيش الجامعة العربية حالة من »الانتعاش« وهي تقرر موقفها من قرار مجلس الأمن 1441 حول العراق، وفق القراءة السورية فترى فيه من الإيجابيات أكثر مما كانت تتوقع، وأكثر مما كان يسمح به المناخ الأميركي المحيط بالمنظمة الدولية ومناقشاتها المضنية والتي امتدت لأسابيع طويلة حفلت بكثير من المساومات والصفقات والتسويات التي تجاوزت حدود الموضوع العراقي بالتأكيد.
مشروع الحرب الأميركية سقط في مجلس الأمن. وإذا كان الأميركيون يعتبرون أن جورج بوش قد حقق انتصاراً دبلوماسياً باهراً بانتزاع هذا القرار الدولي المحكم النص، بتفاصيله المملة (أو المهينة) فإن من حق العرب أن يقرروا أن سوريا قد خاضت باسمهم وبالتعاون مع من تبقى من الدول الصديقة، وفي الطليعة منها فرنسا، ومن خلفها روسيا وبعدهما بمسافة الصين، معركة ناجحة بكل المقاييس، وفي ضوء النتائج العملية.
القرار بحد ذاته مجحف وظالم، لكنه يمثل حصيلة توازن القوى (والتوازن هنا تعبير مجازي!) في لحظة الزهوّ التي تعيشها الإدارة الأميركية بأنها قد انفردت بقرار الحرب والسلام، بل بقرار الحياة والموت للشعوب والدول جميعاً، ما تقرره يكون وليس بمقدور أي طرف أو حتى مجموعة أطراف أن تمنعها.
لم يكن في التصور أن تجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها في موقع الضحية والمجني عليه… لذا فإن الرغبة في الانتقام قد تجاوزت رد الاعتبار الى توكيد الوحدانية والتربع على قمة الكون، بغير شريك، وتسخير المنظمات الدولية (الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها) للتصديق على تفويضها لذاتها بأن تقرر وحدها مصائر الشعوب والكيانات السياسية في أربع رياح الأرض.
بالتالي فإن امتناع مجلس الامن عن تفويض الادارة الاميركية قرار الحرب على العراق (ومن بعده على غيره ممن تقرر انهم في موقع الاعداء) يتجاوز دلالات نصه (المهين؟) ليؤكد ان هذه المنظمة الدولية ما زالت على قيد الحياة، وما زالت ولو بنسبة ما ذات دور شرعي يضطر معه امبراطور الكون الى العودة اليه… ولو للانسحاب من قرار مضمر بالحرب كان يزيّنه له الزهوّ بالانفراد على القمة، خصوصاً بعدما تعزز هذا الزهوّ بالانتصار الكاسح الذي حققه جورج بوش في الانتخابات الاميركية.
اذاً، ليس غريباً ان تعيش الجامعة العربية شيئاً من الانتعاش وهي تلمس ان »الموقف العربي« قد استعاد شيئاً من وحدته، ولو بدافع
الخوف على الذات، ومن قدرته على التأثير انطلاقاً من ان سوريا كانت تمثل الجميع في مجلس الامن، وأن التطمينات والتوضيحات التي تلقتها فنقلتها الى الجامعة حصيلة »حرب ضد الحرب« خاضتها هناك باسمهم، مستفيدة من قراءة دقيقة للمواقف والمصالح الدولية التي أملت اصدار القرار ومكّنت في الوقت نفسه من تعديله بحيث يمكن قبوله.
ليس القرار انتصاراً (عربياً!) على جورج بوش، ولم يكن أحد يحلم بذلك.
لكن القرار منع بوش من تحقيق انتصار مطلق كان يبدو شبه أكيد، والأهم انه منع خسارة العراق كدولة، وأنه يجسد محاولة جدية لتجنيب شعب العراق حربا ظالمة (جديدة) لا طاقة له على ردها فكيف بتحمل نتائجها المدمرة، بعد عشر سنوات من الحصار الدولي أعقبت حربين (كونيتين) خسر فيهما العراق زهرة شبابه ومعظم موارده، والأهم: معظم إنجازاته العلمية الباهرة، ومعها معظم العلماء الذين شاركوا في تحقيق تلك الإنجازات.
ثم إن القرار، بتعديلاته مرفقة بالضمانات التي أعلنت سوريا انها تلقتها خطيا وشفهيا (من واشنطن أساسا، ثم من الرئاسة الفرنسية، ومن الأمين العام للأمم المتحدة، إضافة الى موسكو) يحرم إسرائيل من فرصة ممتازة كانت تتطلع إليها وهي تدمير العراق، كخطوة حاسمة على طريق تشتيت العرب والانفراد بالمستقبل الفلسطيني لاغتياله وتدميره تماماً في ظل انعدام القدرة العربية على المواجهة أو على منع الاجتياح الكامل للأرض والشعب والقضية في فلسطين الجريح.
لقد أثبتت سوريا، عبر تعاملها مع ظروف إصدار القرار في مجلس الأمن، ان العرب يقدرون، إذا هم قرأوا خريطة التوازنات الدولية بدقة، وإذا هم أحسنوا استثمار مصالح الآخرين في بلادنا، فالحرب ليست مجرد قرار تحسمه القوة العسكرية، بل إن قرارها هو خلاصة دراسة متأنية للمصالح ومدى تأثرها بالسلب والإيجاب، حتى لا يكون ربحها خسارة في المردود الأخير… (وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن صدام حسين قد ربح حربه على الكويت فاحتلها بالكامل، في الأيام الأولى، لكن العراق ومعه العرب جميعا ما زالوا يدفعون التكاليف الباهظة لذلك القرار الخاطئ في المكان والزمان والهدف)…
إن أخطر ما جرى هو أن العرب قد عادوا في مواجهة خطر الحرب الأميركية الداهمة إلى شيء من »عروبيتهم«، فجمدوا، ولو مؤقتا، خلافاتهم واختلافاتهم (العقائدية العميقة!) واستشعروا أنهم معنيون جميعا بمشروع الحرب الأميركية هذه، بل ومهددون بها جميعا، يستوي في ذلك الصديق الصدوق والصديق التاريخي والصديق المستجد أو الطارئ مع »الخصم« التقليدي، فوحّدوا موقفهم وتضامنوا لكي يوفروا الحماية المشتركة (ولو محدودة) لكل دولة من دولهم ولمجموعهم في الوقت نفسه.
وإذا كانت إدارة جورج بوش »ايديولوجية مع رؤية واضحة«، كما يقول الكاتب الإسرائيلي سبر بلوتسكر في افتتاحية »يديعوت«، فهي بعد تفجيرات 11 أيلول »ترى أنها تقود حملة صليبية تاريخية لتحرير الشعوب الإسلامية من التطرف والفقر والدكتاتورية كما يرى بوش ووزراؤه العوامل الرئيسية للتهديد الإسلامي للحضارة«.
وليس سيئا أن يكون مجلس الأمن قد عطل أو جمد مثل هذه »الحملة الصليبية« الجديدة، التي كانت وما زالت تريدها وتدفع إليها إسرائيل لأنها ستكون المستفيد الأكبر منها، وقبل قادتها من مدنيي إدارة بوش الذين لبسوا الثياب العسكرية التي حاول التخلص منها جنرالها الوحيد: كولن باول.
على أن هذا لا يعني أن مشروع الحرب الأميركية على العراق قد باتت خلفنا… ولكنه يعني أن العرب يستطيعون أن يفعلوا أكثر ليس فقط للعراق ولكن أساسا لفلسطين، أي لجميعهم، وانطلاقا مما حدث في نيويورك على وجه التحديد.
والعمل لفلسطين لا يحتاج قرارا من مجلس الأمن، ولا يقود بالضرورة إلى حرب لا يقدر أحد عليها مع إسرائيل..
ولكن المسافة طويلة جدا بين التهور إلى حد الحرب وبين الاستسلام المسبق خوفا من حرب يمكن تجنب وقوعها لأسباب كثيرة، ان المقدر له أن يكسبها لا مصلحة له في شنّها!

Exit mobile version