طلال سلمان

عودة الروح..

ها هي فلسطين تستعيد روحها التي عجزوا عن تدجينها فضلاً عن اغتيالها.
ها هي فلسطين تستعيد وعيها، محطّمة حواجز الحصار والوهم وخدر الاتفاق المضلِّل الذي يأخذ منها زخم القضية ولا يعطيها إلا موقع الحارس الإضافي للاحتلال.
ها هي فلسطين تستعيد، بالشهادة، موقع الرمز وتعلي راياتها التي كاد يطويها التفريط والتخلي والاعتماد على حسن نية العدو.
انتهى زمن المساومة على الدم بسلطة شكلية: علم ونشيد وتشريفات وأجهزة أمن تصادر الأفكار وتحرق الكتب وتداهم المطابع لمنع الصحف من الصدور، وعادت الحقيقة تسطع نوراً وناراً حارقة، وعاد الأطفال الذين صاروا أكبر من آبائهم إلى الشارع حيث باشروا صناعة التاريخ وها هم يكملون المهمة المقدسة.
من الأقصى إلى الأقصى أرضك يا فلسطين، لا تخم إلا الدم. والدم يتوهج بامتداد الأرض المحتلة حيث لم تعد فيها بقعة لم تتشرّف بحمل اسم شهيد، ولم يتبق فيها حجر لا يعرف صاحبه أو لا يعرفه صاحبه.
من الأقصى إلى الأقصى ينتثر الدم ليؤكد هوية الأرض وجدارة أهلها بحقهم فيها: لن يتركوها مرة أخرى. لن يخرجوا منها أبداً. لن يخلوها لهؤلاء المستقدمين من أطراف المعمورة ليستعمروها وكأنها، فعلاً، أرض بلا شعب تنتظر مَن »يكتشفها« أو مَن يستزرعها، ويتخذ منها حصناً للوثوب من بعد على سائر الأرض العربية فاتحاً و»محضراً« ومؤسّساً لأمبراطوريته الجديدة على القاعدة التوراتية المستهلكة.
* * *
لأول مرة يكون للوحش إسم دلع: »بيبي«!
ولأن »بيبي« يكره السلام، ويفترض أن الحرب هي الباب الوحيد إلى التاريخ، فقد أصر على أن يسوق إلى ميدان المواجهة كل الذين »كافحوا« للخروج منه ومنها.
لم يكتفِ بأن يعلن »لاءاته« الشهيرة رافضاً استكمال المفاوضات، بل هو »ناضل« وما زال »يناضل« لإسقاط الاتفاقات المعقودة فعلاً، وبالشروط الإسرائيلية، مع بعض الأطراف العربية… وها هو يقترب من تحقيق مطلبه: فكامب ديفيد يترنح في مصر، واتفاق أوسلو يتهاوى داخل فلسطين و»وادي عربة« يكاد يقتل صاحبه في عمّان، والذين كانوا يهرولون إلى التوقيع على بياض بلعوا أقلامهم وألسنتهم وانفضوا عنه خائبين.
و»بيبي« يحب الدم…
وها هو يفتعل حرباً، أو يستعجل حرباً كان مقدراً لها أن تتأخر بفعل الخوف من خسارة ما استعيد، ويطلق جيشه ليقتل الناس الذين كانوا قد استكانوا إلى »الحل المؤقت«، على طول المسافة ما بين القدس الشريف وغزة بني هاشم، مروراً برام الله وبيت لحم وطولكرم والخليل ونابلس التي عادت »جبل النار« وجنين والعفولة وبئر السبع.
ها هو يعيد الشرطة »فلسطينية« ويحرج قيادتها فيخرجها، أما رجالها فلم يكن أمامهم خيار إلا الوقوف مع أهلهم والموت معهم برصاص »الشريك« أو »الحليف« أو »السيد« الإسرائيلي.
لقد أصرّ بنيامين نتنياهو على استكمال حفر النفق تحت المسجد الأقصى،
حسناً، ها هو الآن مهدد بالاختناق فيه.
نُفخ في الأسطورة حتى تفجرت فإذا بنيامين نتنياهو وبحسب »أصدقائه« الذين قدموه على أنه »الاستراتيجي العبقري«، وأنه »النسخة المطوّرة من القائد التاريخي«، يتكشّف عن »رجل خطر« وعن »غبي« وعن »إنسان غير مسؤول« وعن »مهووس« و»مستفز« و»غير طبيعي«.
وهذه أوصاف يطلقها عليه الغربيون، في واشنطن كما في باريس، وفي لندن كما في بون، وفي روما كما في طوكيو.
لا مجال في الواقع السياسي للأساطير.
ولا مجال مع الرقم، في المجال الاقتصادي، لبيع الأوهام.
وبنيامين نتنياهو الذي يلغ في دماء الفلسطينيين الآن، يخوض حرباً كونية لا مبرّر لها ولا سبب غير جنون العظمة وحماية »شرف« التطرّف الذي أوصله إلى سدة السلطة في تل أبيب.
لكن الحرب لن توقف التردي في الاقتصاد الإسرائيلي ولن تعيد اللحمة إلى »المجتمع« الإسرائيلي الممزق بالتطرف الديني وخرافة العنصر الممتاز والمتميز بأنه »شعب الله المختار«.
إنها عودة إلى الينابيع،
إنه وصل لما انقطع من نضال الشعب العربي في فلسطين.
لقد رجع الدم إلى الشارع.
إن فلسطين تنهض من خدرها وتستعيد لغتها الأصلية.
منذ ستين سنة وفلسطين تخوض في دمها طلباً للحرية وتوكيد الانتماء.
الشهداء يتناسلون أكثر من »الأحياء« المدفونين في قوقعة الهزيمة.
فلسطين ولاَّدة.
فلسطين حقيقة باهرة تتهاوى أمامها الأساطير.
وفلسطين تعود عربية، ومعها تعود إلى العرب عروبتهم.
أما »الوحش« فسيلقى مصيره الحتمي بالسيف ذاته الذي شهره على العالم بعنوان فلسطين (ومصر، وسوريا، ولبنان) والعرب أجمعين.

Exit mobile version