طلال سلمان

عن 23 يوليو وجمال عبد ناصر

الذكريات بوابات للأحزان، يهمي عليك منها مطر أسود كعناوين الأخبار في صحف اليوم!
ليس أقسى من أن يرسخ في يقين أي إنسان أن آماله قد باتت خلفه، وأن ماضيه أجمل من حاضره، وأن صورة مستقبله مشوّشة الى درجة تجعله يطردها من ذهنه كلما لاحت له من خلال التوقع أو حاول أن يتمثلها ولم يستطع إلى الهرب سبيلاً، من مجرد الاحتمال!
قبل سبع وأربعين سنة تماما، كانت الهزيمة في فلسطين، تدفع بالعرب إلى الثورة على واقعهم، والانتفاض ضد حكّامهم الذين اعتبروهم مسؤولين عن العجز الفاضح عن مواجهة المشروع الصهيوني، ملكيين كانوا أو جمهوريين. وكانت مصر طليعية في ثورتها.
كان العرب في بداية اكتشافهم لواقعهم: هشاشة كياناتهم السياسية، الضعف الفاضح في قدراتهم العسكرية، التخلف المريع عن مستوى المواجهة المفروضة مع »العدو« الذي نجح في احتلال بعض أرضهم المقدسة، مفسداً عليهم متعة الزهو بالاستقلال، الذي لم يلبثوا أن تبيّنوا انه »شكلي« وأنه لم ينفعهم كثيرا في مواجهة تحديات زمانهم ومعها عدوهم، وإن كان قد قسمهم »دولاً« بينها حدود محمية ومحترمة الى حد الموت في سبيلها بوصفها تجسيدا للكرامة والعنفوان الوطني.
ولعل أعظم ما أقدمت عليه ثورة جمال عبد الناصر في 23 تموز (يوليو) 1952، أنها باشرت معركة هائلة لتغيير الواقع، في مصر، آنذاك، بدءاً بالمستوى السياسي وصولاً الى المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو العسكري والعلمي والثقافي.
ولقد كانت تلك الثورة بداية لتفجر الوعي العربي بضرورة التغيير، وإن اعتورها النقص في تمثل البديل، وفي إعداد القوة اللازمة لإنجاز ذلك التغيير ومن ثم حمايته.
ما أبعد اليوم عن البارحة: اليوم يفرض علينا التغيير المضاد لكل ذلك الذي كاد ينجز، أو بوشر به ثم تم تعطيله إما لغياب المثال أو لنقص في إرادة المواجهة، وإما لعجز عن الارتقاء الى مستوى العدو، قوة وتجهيزا وتخطيطا وتحالفات ووحدة في الهدف والموقف.
وإذا كان من الظلم تحميل جمال عبد الناصر، المسؤولية عن فشل المشروع القومي، فإن حقه علينا أن نعترف له بشرف المحاولة.. وإن هي لم تنجح تماما.
في أي حال فلقد تغيّرت الدنيا بأسرها، أنظمة ومعسكرات وقيماً ومفاهيم، تحالفات وعداوات، ولم يكن العرب دائماً جاهزين للتقدم بالسرعة المطلوبة، فعطلهم الغير كثيرا وعطلوا أنفسهم أكثر وتاهوا من جديد عن منطق حركة التغيير التي خلخلت مرتكزات »عالم الأمس« مشرعة الأبواب أمام غد مختلف تماما، يكاد لا يشابه ما عرفه الإنسان في تاريخه الطويل.
وها هم الآن ضائعون: لا يستطيعون تجميد حركة التغيير ولا هم يستطيعون مواكبتها. لا يستطيعون مواجهة عدوهم ولا هم قادرون على »مصالحته« لأنها في بعض مضامينها تتهدد وجودهم وتكاد تلغيهم.
.. وعبد الناصر حي في وجدانهم، يهربون إليه كلما عزّ المثال، ينقدون فيه مجموع أخطائهم، ويلومونه على مجمل ارتكاباتهم، ويحمّلونه المسؤولية عن واقعهم الذي غاب عنه منذ 29 سنة.
لا هم يتركونه يموت، ولا هم يريدونه أن يبعث حياً.
يطلبونه للحرب وهم ذاهبون إلى الصلح، ويطلبونه للصلح كعذر للهرب من عجزهم عن الحرب.
وما زلنا نواصل الاحتفال بثورة 23 يوليو بعد الاطمئنان الى وفاتها بوفاة قائدها…
جميل أن يبقى لنا في التاريخ يوم لمراجعة الذات،
.. وأن يبقى لنا »مثال« ولو لنحمّله أوزارنا، عن الأمس واليوم والغد!
لذا يستبقي الكل جمال عبد الناصر حياً: البعض ليهرب إليه من واقعه، والبعض الآخر لكي يحمّله المسؤولية عن هذا الواقع.
تحية إليه في ذكرى اندفاعته الشجاعة للتغيير… وهي تنتظر بعد من يستكملها.
طلال سلمان

Exit mobile version