طلال سلمان

عن نظام مدول حروب اهلية من حولنا

يعيش «النظام» في لبنان حالة من الاطمئنان والثقة بصلابته واستعصائه على أي تبديل يمسه أو أي تغيير في طبيعته تتجاوز حدود الشكل.
بل إنه يتشاوف على رعاياه، لا سيما المعترضين منهم على وجوه الخلل فيه، ويطالبهم بأن يشكروا الله على نعمه وأخطرها أنه ـ جل جلاله ـ خصهم بمثل هذا النظام الذي لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من قدامه.
يطل عليهم أهل النظام مع كل نشرة أخبار ليقولوا شامتين: تفضلوا! هذه أحوال إخوانكم السوريين مع نظامهم؟! ألستُ أرحم بكم منه مع رعاياه؟! وهذه حال إخوانكم الأردنيين مع نظامهم؟ أليس وضعكم أفضل منهم في البلد الصغير الذي تتهاوى حكوماته تحت ضغط الشارع وأهله الفقراء أو بسبب تصادمها مع القصر، وأغنى التجار والمحتكرين بمعدل مرة كل شهرين؟! أم يعجبكم الحال في العراق حيث يتحصن رئيس الحكومة بدعم خارجي قاعدته مذهبية إيرانية ـ أميركية مشتركة فيكاد يذهب بما تبقى من وحدة العراق، أرضاً وشعباً ودولة؟! أم ترى تعجبكم حالة الاضطراب التي تسود منطقة الخليج حيث تدفع أنظمة النفط والغاز إلى استباق التغيير في الداخل بشن الحروب في الخارج العربي، تحت لافتة تأييد الثورات، مع الادّعاء أن النظام القائم في المملكة المذهبة والإمارات والمشيخات والسلطنات المنضوية في مجلس التعاون يتبدى أكثر عدلاً وأرحم في التعامل مع رعاياه من أي بديل ثوري، هذا إذا ما قدر لمثل هذا البديل أن يقوم، إذ هو يحرّم عليهم تعاطي السياسة حتى لا تفسدهم وتشق صفوفهم وتحرّض الأخ على أخيه، وتسقط هيبة الحكم فتسود الفوضى ويعم الاضطراب وتكون فتنة!
تتعاظم الفضائح في لبنان. تضيع ثروة البلاد. يهدد الإفلاس الدولة. تعجز الحكومة عن ممارسة سلطاتها لا بسبب من قوة معارضيهم بل أساساً بسبب من تنافر «مكوناتها» من الحلفاء ـ الأعداء إلى حد التناقض واتهام بعضهم البعض في وطنيتهم أو في ذمتهم المالية… ومع ذلك تمر عواصف الكلام، في المجلس النيابي أو على الشاشات، مرور الكرام، وتواصل «المؤسسات الديموقراطية» من حكومة وبرلمان ورئاسات بطالتها المقنعة التي لا تمنع الصفقات ولا تعطل التلزيمات المشبوهة، برغم تفاقم حجم الدين العام، وعجز الإدارة عن الإنجاز، ولو بالحد الأدنى!
.. ويضرب الزلزال سوريا، فيهتز استقرارها الأسطوري، وتلجأ سلطتها الحديدية إلى البطش في مواجهة معارضيها، في الداخل والخارج، والذين تتعاظم قدراتهم لأسباب تتجاوز مطالبهم وأمانيهم، فإذا بالنظام في لبنان يرفع عقيرته مباهياً رعاياه بأن طائفيته عصمته من الانهيار وجنبتهم جهنم الحرب الأهلية.
ذلك أن النظام في لبنان يمارس طائفيته جهاراً نهاراً، فلا يعين حاجب أو خفير إلا على أساس انتمائه المذهبي، وليس الديني… وهكذا تتحقق «العدالة» ولو على حساب الدولة، وما قيمة الدولة إذا ما كانت بوابة للاقتتال بذريعة الأخذ بالكفاءة والجدارة وتولية المستحقين مواقع القرار؟! في النظام الطوائفي تتحقق العدالة
المطلقة، فلا يهم أن يكون الرئيس بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وأن يكون للوزراء رائحة لا تطاق، وأن يكون النواب أعداداً لا تفتقد إلا عند طرح الثقة؟!
يخاطب النظام الطوائفي في لبنان رعاياه بالحكمة: انظروا إلى سوريا. كان نظامها أقوى من شعبه بأكثر مما يجب، وكان يموّه أسباب قوته بالحزب العقائدي والشعارات الثورية والأهداف المستحيلة مثل تحرير فلسطين… لذلك واجه الاعتراضات الشعبية، ومنذ اللحظة الأولى، بالسلاح. كان يستحيل عليه أن يتراخى، أن يلجأ إلى السياسة، فخياره منذ اللحظة الأولى: إما نحن وإما هم! وعندما تعاظم طوفان الدم، وانفتح الباب أمام تدخل الدول، ظل النظام مطمئناً: لهم دولهم ولي دولي، والبقاء للأقوى!
يضيف النظام في لبنان: أما أنا فأعقل وأكثر حكمة. ينقسم الرعايا، وتأتي الدول، فتنحاز إلى صفي بالتأكيد، لأنها هي من استولدني، وأنا أشكل حاجة لجميعها، الرأسمالي والاشتراكي، الدكتاتوري والديموقراطي، الديني والعلماني.. وهكذا فهي تساعدني على احتواء المعترضين و«تأديب» المتطرفين بحرمانهم من نعمي.
في هذه اللحظة يتبدى النظام في لبنان أقوى من النظام الأميركي ذاته! الكل من حوله في مأزق يهدد الدول والأوطان بالتمزق بينما يعيش حالة استقرار يحصنه شيء من الازدهار. سوريا مفلسة، والأردن ينوء تحت أثقال الديون، والعراق أحد أغنى بلدان الله ينام بعض شعبه في الخرائب ويتقاسم النهابون ثروته الأسطورية، وتتعالى في أرجائهم الدعوات الانفصالية التي باتت تجد لها صدى في سوريا. فالأكراد يستكملون فصل الشمال، والسنة يطمحون إلى فصل الغرب، والشيعة الذين حرموا ـ تاريخياً ـ من السلطة لا يعرفون كيف يحتفظون بالسلطة التي هبطت عليهم من سماء الاحتلال الأميركي.
لا مجال لإفحام النظام اللبناني وتظهير ظلمه لرعاياه. سيلجأ إلى حصن طائفيته ليسقط حصانة النقابات التي كانت ذات يوم مؤسسات جدية تعبر عن مصالح العمال كطبقة، تستوعب معهم سائر الفقراء ومحدودي الدخل، فباتت اليوم دكاكين مذهبية لا تمثل ـ حقيقة ـ من تدّعي أنها تحمي مصالحهم، بل هي تمثل، في طوائفها ومذاهبها، الأغنى والأوسع نفوذاً في السلطة.. الطوائفية!
البعض يذهب في تشاؤمه إلى حد القول إن المنطقة بأقطارها جميعاً ذاهبة إلى التدويل. فسوريا تكاد تستقر بنداً دائماً على جدول أعمال مجلس الأمن، كمدخل إلى التدويل، رسمياً، والعراق سبق إلى هذه النعمة، وأقطار الجزيرة والخليج تعيش في خيمة الحماية الدولية منذ زمن بعيد، وما تحويل مجلس التعاون إلى «اتحاد» إلا خطوة عريضة على الطريق نحو تقنين التدويل بإسباغ الحماية الأميركية، رسمياً، على أهل النفط والغاز.
فأما اليمن فقد يسبق التشطير التدويل، فينفصل الجنوب ليعود مشيخات وسلطنات ومحميات، تحت الراية الأميركية، في حين يترك الشمال لقبائله تواصل صراعها على السلطة المفلسة، بما يبقي لجيرانها الأغنى مما يجيز القدرة على أن يشتروا ولاءها قبيلة إثر عشيرة وإماماً إثر شيخ وعقيداً بعد عقيد ركن!
أما التلهي بصراع الرؤساء والزعماء ومناكفات الوزراء والسفاهات المتلفزة لبعض النواب فليس أكثر من فاصل كوميدي يبرره النظام بضرورة التسرية عن رعاياه المتصلين بهموم الطعام الفاسد والسياسات الفاسدة والصراعات التهريجية بين قادته الذين يعجز أقطاب الكوميديا عن تقليدهم والتباري معهم في ارتجال ذلك الصنف من التمثيل المضحك… وإن كان الضحك فيه كالبكاء.

Exit mobile version