طلال سلمان

عن منتفعين بحرب انسحاب اسرائيلي

يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، ننزلق إلى استخدام لغة عدونا في الحديث عن »قضيتنا«، ونكاد نخضع بقصر النظر أو تحت تأثير المباغتة لمنطقه فنأخذ عنه تعابيره، وتبهرنا قدرته فنغفل عن واجبنا في مواجهة بمستوى التحدي.
وهكذا تسمع من يقول لك: صحيح أننا انتصرنا في استعادة بضعة كيلومترات من أرضنا المحتلة، ولكنه انتصر علينا فاكتسح بمنطقه المستنبط من فهمه لتحولات العالم كله، من أقصاه الصيني إلى أقصاه الأوروبي وصولا إلى القطب الأميركي الأعظم والأمم المتحدة عنده وتحت خيمة نفوذه وفي خدمة قراره.
وبلغة العدو ووفق ما ينشره في الدنيا، فإنه تبرع بالانسحاب ولم يُجبر عليه، ثم انه انسحب من حيث تأتيه الخسارة والانزعاج ليفتح مدى الربح بالمصالح والنفوذ والتفوق بغير حدود،
وباللغة السائدة فإنه انقلب من جيش مُحاصَر بعجزه عن الانتصار، إلى بطل انتصار سياسي يكاد يحاصرنا ويحصرنا في أضيق دائرة من التأييد والتعاطف وربما الإشفاق، دوليا.
وأبسط شروط المواجهة الناجحة لهذه الخطوة الدراماتيكية التي أقدم عليها العدو فقلب قواعد اللعبة (كما كانت معتمدة) ووسع مسرحها إلى حيث لا تطال يدنا ولا يُسمع صوتنا ولا تلقى قضيتنا الفهم المطلوب، أن نستوعب حركته، وأن نتحرك لمواجهة الأهداف القصوى للعبته التي تقبّلها العالم وكاد يُظهر له الامتنان.
لنتجاوز كل الوقائع على الأرض. ولنفترض أن إسرائيل قد انسحبت فعلاً من آخر حبة تراب تحتلها في لبنان، وتراجعت بقواتها العسكرية (المدحورة) إلى »الحدود الدولية« التي أقرها الانتدابان الفرنسي والبريطاني على كل من فلسطين ولبنان وسوريا، في العام 1923، فهل هذا أولاً سبب للانقسام داخليا؟!
وهل هذا ثانيا سبب لإقفال ملف القضية عربيا ودوليا؟!
وهل يمكن ثالثا ألا نقرأ بشكل صحيح دلالة التهديدات الإسرائيلية، اللاحقة بل والمفسِّرة للتعهد بالانسحاب، بحرب واسعة ضد لبنان بمرافقه الحيوية، وضد سوريا في لبنان، وربما ضد سوريا في سوريا، إذا لم يتقبلا هذا الانسحاب وكأنه شطب أو إسقاط لملف الدعوى نهائيا؟!
ما يعنينا من التهديد بحرب جديدة ان إسرائيل تؤكد، وبلسان قياداتها في الحكم أساسا كما في المعارضة، ان احتلال هذه الرقعة من الأرض اللبنانية لم يكن أساس المشكلة، أو لم يكن المشكلة الوحيدة المتفجرة والمعلقة بين لبنان وإسرائيل.
فهي تهدد بالحرب لتمنع إثارة المشكلات الأخرى السابقة على احتلال 1978، وبعضها لا يقل خطورة عن احتلال الأرض، وهي معلقة منذ تاريخ سابق على قرار مجلس الأمن الرقم 425 بثلاثين سنة على الأقل، وما زالت القرارات المتصلة والمؤكدة على ضرورة حلها، وعلى أسلوب حلها معلقة.
طبعا لن يمنعنا ذلك من الفرح باستعادة أرضنا المحتلة، ولا من الاحتفال بالنصر الباهر الذي تحقق للبنان والعرب والمتمثل بجلاء هذا المحتل، ولأول مرة منذ إقامة إسرائيل، عن أرض عربية احتلها بالقوة، تنفيذا لقرار دولي، ولو بالادعاء… أو تمهيدا لهجوم سياسي شامل كما هو الواقع،
لكن احتفالنا بانتصارنا لا يجوز ان يمنعنا عن رؤية ما سوف يترتب عليه، مما بدأت »طلائعه« تطل علينا، وبمختلف لغات الارض، وهو تحول عن تأييدنا الى لومنا، او الى الاعتذار عن عدم فهم موقفنا المتحفظ،
وصعب علينا، في هذه اللحظة، اقناع العالم بأنه انسحاب يمهد للهجوم الشامل سياسياً، وان اتخذ لغة التهديد بالحرب العسكرية، لطمس او تقزيم او التقليل من خطورة المشكلات الاخرى المعلقة والتي »بررت« بها اسرائيل احتلالها بعض الارض اللبنانية سنة 1978، ثم نصف الارض اللبنانية في العام 1982،
فقبل اجتياح 1978 لم تكن علاقة لبنان باسرائيل علاقة دولتين يربط بهما حسن الجوار والتعاون الاقليمي والمصالح المشتركة او المنافع المتبادلة. كانت الحدود خط نار مجمدة بسبب الهدنة او نتيجة لها. وكانت الهدنة فسحة الاستعداد الاسرائيلي لحروبها العديدة بعد ذلك، الشاملة منها (كما في العام 1956 و1967) او المحدودة كاجتياح بعض الجنوب (في العام 1972) ثم مساحة اوسع بعد ست سنوات، وصولاً الى حربها التي اوصلتها الى احتلال بيروت في العام 1982.
والعودة، مرة اخرى، الى اتفاق الهدنة مستحيل في ظل الواقع الجديد الذي فرضته اسرائيل على المنطقة، بعد حروبها الكثيرة التي نسفت فيها مرتكزات الهدنة،
وبديهي ان يتخوف لبنان من ان يكون القرار 425 وحده هو الضابط او المانع لاعتداءات اسرائيل مجدداً عليه، براً وبحراً وجواً، فليس لهذا القرار دبابات وطيران وصواريخ او حتى قوة ردع سياسية كافية للجم الجهد الاسرائيلي للتنصل من مسؤوليتها عن نتائج اقتلاع الفلسطينيين من ارضهم ورميهم في الشتات العربي والاجنبي، مع حصة مميزة للبنان منهم.
لكن التخوف ليس سياسة، ولا هو الطريق الى القوة، بل لعله في اساس ظواهر الانقسام التي تتبدى في المجتمع اللبناني، فتكاد تظهر اطمئناناً الى التعهد الاسرائيلي وشكوكاً معلنة حول »النوايا السورية« او حول جدية الدعم العربي، حاضراً ومستقبلاً… والأخطر: شكوكاً حول قدرتنا على حماية وحدتنا، ارضاً وشعباً.
ومظاهر الانقسام هي اول المهمات التي علينا مواجهتها، وبالحكمة والمنطق الوطني الجامع وإشاعة الاطمئنان الى المستقبل، وليس بإدانة المناصرين المساقين بعواطفهم (او بغرائزهم) الى تأييد هذه او تلك من القيادات التي يمكن براحة ضمير تحميلها المسؤولية عن كوارث وطنية حلت بلبنان نتيجة بؤس سياساتها، ليس اولها افتقاد الوحدة وليس آخرها الانقسام او الانفصام النفسي، هذه الايام.
وعلينا ألا ننسى ان ثمة منتفعين »بحرب« الانسحاب الاسرائيلي كما كان ثمة منتفعون بحرب الاحتلال،
لكن علينا بالمقابل ان نفصل بين بائع دم شعبه وبين الشباب المستعد للتضحية بدمه من اجل وطنه إذا ما آمن بقيادة بلاده ونهجها في خوض الحرب الجديدة المفروضة علينا جميعاً.

Exit mobile version