طلال سلمان

عن مقدمات كارثة تي ضربت عراق

ليس أسهل من أن يبادرك أي متابع لشؤون العراق فيحدد لك أسباب الكارثة الجديدة التي ضربت أرض الرافدين فخلخلت سلطته التي تحولت إلى واحدة من أكبر مشكلاته، منذرة بسقوط دولته جميعاً أو تفسخها «جهات» و«أقاليم» أو «كانتونات» طائفية وعنصرية تتجاوز في انفصاليتها ما يصدر عن قيادة إقليم كردستان العراق، مما يذهب بوحدة الشعب ويشطب واحدة من أقوى الدول العربية، منذراً بكوارث مدمرة للمستقبل العربي في مختلف الأقطار، مشرقاً بالأساس، ومغرباً بالتالي.
وليس أسهل من أن يستذكر محدثك المقدمات الخطيرة التي مهّدت لاجتياح تنظيم داعش، القليل عديده، المحدودة إمكاناته قياساً إلى «جيش المليون» الذي أعيد بناؤه بإشراف مباشر من القيادة العسكرية للاحتلال الأميركي ومندوبها السامي ذي اللباس المدني و«البوط العسكري» بول بريمر، بعد إسقاط «عهد الطغيان» ممثلاً بصدام حسين و«رفاقه» الذين عاد بعضهم إلى الظهور كقياديين في حركة تحرير أرض الرافدين تحت الشعار الإسلامي بنقوش نقشبندية.
من باب تلخيص الواقع اختصاراً للوقت، يذكر لك محدثك مسببات ما حصل خلال الأيام القليلة الماضية بما يلي:
أولاً ـ التفرد بالقرار، مع كل مخاطر التذكير بممارسات عهد الطغيان… وقد سحب هذا التفرد ذاته على إعادة تركيب السلطة بما «يعوض عن الحرمان التاريخي لمكونات أساسية في الشعب العراقي».. فصارت ذريعة «إنصاف الشيعة» الذين طال اضطهادهم مدخلاً إلى فساد غير مسبوق تخلله تعيينات عشوائية للأقل جدارة والأعظم إخلاصاً لصاحب الفضل في تعيينه، والتساهل في محاسبة المفسدين ولصوص المال العام (وما أكثرهم)، مما ضيّع على العراق ـ بأكثرية شعبه التي تعاني الضيق في أسباب حياتها ـ ثروات هائلة نهبت جهاراً نهاراً وأرسلت للاستثمار في مواقع محصنة بينها دبي والأردن وبيروت (وإن بحدود) فضلاً عن العواصم والمراكز المالية البعيدة! من دون أن ننسى إقليم كردستان الذي ابتزت «حكومته» الحكم المركزي في بغداد على مدار الساعة، في النفط خصوصاً ثم في مختلف وجوه الاستقلال الذاتي الذي صار انفصالاً كاملاً، وعلى قاعدة: ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم!
ثانياً ـ الفشل في صياغة قاعدة سياسية عريضة للعهد الجديد، تعالج أسباب الخراب في بنيته التحتية، برغم إنفاق المليارات، بغير حساب وبغير رقابة جدية على وجوه الإنفاق…
كان أصحاب السلطة يكثرون من المناورات، فينجحون أحياناً في تأمين أكثرية عددية للحكومة، من دون أن يحاولوا نفي صبغة الغلبة الفئوية فيها… في حين «الشيعة» لم يصلهم من خيراتها ما يعوضهم دهور الحرمان، أو بخاصة ما أحاق بهم من ضيم في عهد صدام حسين، لا سيما في سنواته الأخيرة أي ما بعد حربه ضد إيران ثم ما بعد قراره الهمايوني باحتلال الكويت.
ثالثاً ـ الفشل في استعادة دور العراق كدولة مهمة في محيطها العربي…
وصحيح أن الحكومة العراقية لم تقبل في محيطها الخليجي، وظلت محاصرة بعدائية واضحة، كانت السعودية الأفصح في التعبير عنها، ولكنها لم تنجح في كسر طوق الحصار بالكفاءة المطلوبة… وتكفي القمة العربية في بغداد شاهداً ودليلاً. ولقد علقت الحكومة بين السعي لنيل الرضا الأميركي والتأييد الإيراني، فأهملت في محاولة تأكيد «عروبتها»، مما سهل على خصومها اتهامها بالفئوية والارتهان للخارج.
رابعاً ـ يتصل بذلك أن الحكومة العراقية أساءت تقدير المخاطر التي ستلحق بها نتيجة الحرب في سوريا وعليها… من هنا فإنها تأخرت كثيراً في التنبه إلى أن الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها «داعش»، لا تعترف بالحدود السياسية للكيانات القائمة، طالما أنها انتدبت نفسها لهداية المسلمين إلى الإسلام..
خامساً ـ استهانت الحكومة العراقية باحتمال أن ينشأ تحالف ميداني مؤثر بين هذه الجماعات الإرهابية وبين مخلفات عهد صدام حسين، في العسكر أساساً وفي الأوساط الشعبية التي كانت قد التحقت بحزب البعث (من السنة أولاً ثم من الشيعة)… وهكذا فوجئت ففجعت بما حصل في الموصل… إذ هاجم المدينة العريقة وذات التاريخ القومي المجيد بضع مئات من مسلحي «داعش» فهزموا قوات الجيش (وعديدها بعشرات الآلاف) لأنها لم تقاتل، في حين عاد إلى الميدان كل المتضررين من عهد ما بعد صدام، وهكذا توالى سقوط المدن والجهات بغير قتال، وتوالت فضائح سقوط كتائب الجيش وقطعه العسكرية، منذرة بتفكك الدولة.
وبالتالي فقد وجد تنظيم داعش نفسه أمام أرض مفتوحة تمتد من الرقة وسائر المدن الفراتية في سوريا وصولاً إلى دير الزور، إلى الموصل فإلى كركوك وصلاح الدين (تكريت) وسامراء، مع استعداد مناطق أخرى كان يقاتل النظام المسلحين فيها بغير نجاح: الفلوجة والرمادي..
تأكد عبر هذه الحرب في العراق وعليه، ما تأكد من قبل في سوريا، من أن اللوثة المذهبية (التي تجد حكماً من يحتضنها ويعزز قوتها بالمال والسلاح) تستطيع تحقيق النجاح بقدر ما تكون السلطة الحاكمة متهمة بالطائفية ومعها الفساد في الممارسة، وانفضاض التأييد الشعبي لها.
ولقد تزايدت أعداد «الصحوات» في العراق، قبل حين من الزمن..
لكن «صحوة» الحكومة تأخرت أكثر مما يجب..
وأخطر ما يمكن أن يصيب العراق الآن أن تؤكد السلطة فيه (لأن حكومته بحكم المستقيلة) أنها ملووثة بشبهة الطائفية، فتبرر بذلك تدمير العراق، دولة وشعباً، بحجة خروج السنة «المضطهدين» على «الحكم الشيعي المتفرد» في بلد يكاد أن يكون الأغنى تنوعاً في العالم منذ بداية التاريخ وحتى اليوم.

Exit mobile version