طلال سلمان

عن مصر مقهورة عجز تهديد

تغطي القاهرة سحابة من الشعور بالقهر وافتقاد الدور أكثف من تلك التي تتشكل نتيجة التلوث البيئي ورمال الصحراء المحيطة بها… وتستشعر المرارة في نبرة المصريين، مسؤولين يحد من حركتهم التحرج من التصريح بحقيقة مشاعرهم، ومواطنين عاديين مثقلين بهمومهم المعيشية وإن كانت لا تصرفهم عن »الكوارث« التي تتوالى على »أهلهم العرب« والتي تعكس نفسها عليهم أحزاناً إضافية تأخذهم الى مزيد من الانكسار طالما تعذرت الثورة لتغيير الواقع المهين.
»المسؤوليات، داخلياً وعربياً ودولياً، تتجاوز قدرات مصر، والإدارة الأميركية الهائجة التي تعيش حالة من الزهو بقوتها المفردة وغير المحدودة لم تعد تقيم اعتباراً للصداقات والعلاقات التاريخية، ولم تعد تقبل شريكاً أو حليفاً له رأي مختلف، وليست مستعدة لمحاورة أحد، إنما هي تقرر وعلى الآخرين الطاعة وإلا…«.
هكذا يلخص من تلتقيهم، من أصحاب المواقع القيادية، الموقف: »حاولنا فلم ننجح، نبهنا الى خطورة النتائج التي قد تترتب على المسلك الأميركي المستفز والذي يظهر استهانة بالعرب والمسلمين، فكانت النتيجة حملات متجنية وقاسية على النظام وصلت الى حد التشهير والتمنين بالمساعدات والتلويح بقطعها«.
الأخطر، في ما تستنتجه من كلام هؤلاء »العقلاء« أنه قد بات صعباً الى حد الاستحالة، تقريباً، الفصل بين إدارة جورج بوش وبين حكومة ارييل شارون الاسرائيلية بكل فظاعة الجرائم التي ترتكبها في فلسطين، ضد شعبها وسلطتها ومرافقها وبنيتها التحتية، بل وضد أسباب الحياة فيها جميعاً.
وتستنتج، بغير جهد، أسباب اليأس التي تنضح بها كلمات أي »قيادي« مصري، سواء أكان في موقع سياسي أو إعلامي أو في »مرصد« للمراقبة والتحليل: »لقد حاولت مصر، انطلاقاً من موجبات أمنها الوطني قبل مسؤولياتها القومية، وقف الحرب، الظالمة، بل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل شارون ضد شعب فلسطين، فتعذر عليها ذلك. إن واشنطن ما بعد 11 أيلول ليست واشنطن التي كانت قبلها. وفي جملة ما انهار مع »البرجين« في نيويورك، أسطورة العلاقة الخاصة مع الولايات الأميركية: لقد أقفلت الأذن الأميركية، دون النصائح المصرية…«.
ويدوّي الاعتراف بالفشل مع خيبة الأمل: »لقد حقق ارييل شارون نجاحاً أسطورياً بإقناع واشنطن بأن اسرائيل هي »البرج الثالث« المهدد بالنسف، تماماً مثل ما جرى فيها ولها، وان »الفلسطيني« ممثلاً بالسلطة أو الفصائل أو الشعب أو عرفات، لا فرق، هو »بن لادن اسرائيل«، وبالتالي فإن حربهما هو وجورج بوش على »الإرهاب« واحدة، خصوصا ان هذا »الإرهاب« هو هو في الحالين: عربي أساسا ومسلم بالاستطراد!
… وها هي الإدارة الأميركية تباشر الحرب الظالمة الثانية على العرب في العراق، متجاهلة النصائح المصرية التي اتخذت طابعاً تحذيرياً، فكان الرد الأميركي حملة تشهير جديدة تتضمن »التهديد بما لا تقدر مصر على مواجهته«…
ما العمل؟! كيف السبيل الى وقف هذا الكابوي الأميركي الهائج والذي يرى في هذه اللحظة فرصته التاريخية لفرض هيمنته على الكون بغير شريك. لقد اندثر »عدوه الأكبر«، ومع اندثاره انتفت الحاجة الى »الحلفاء«. لم تعد أوروبا حليفاً. صارت مجرد رديف عليه ان يتبع بلا مناقشة قائده الأميركي فينفذ ما يطلبه منه بغير نقاش فكيف بالاعتراض: وها هي أبواق الإدارة الأميركية تذكّر من خانته الذاكرة من الأوروبيين بأن أميركا هي التي »حررتهم« من الاحتلال الالماني، ثم انها هي التي »حمتهم« من »الاجتياح السوفياتي« طوال عهد الحرب البادرة… »ألم تسمع ما قالته أبواق واشنطن عن الحليف الالماني (السابق) شرويدر؟!«.
ما العمل؟! لا بديل من المحاولة… »نسعى الى مزيد من التعاون والتنسيق مع أوروبا، فرنسا أساساً، وألمانيا، وحتى بريطانيا، التي نفترض انها تساير الثور الهائج فتواكبه لكي يطمئن إليها أكثر، وعندئذ ربما يسمع نصيحتها«!
ولقد سأل رئيس الحكومة البريطانية »الفلاح المصري الفصيح« مباشرة عن تقديره لردود الفعل العربية على الحرب الأميركية ضد العراق »فسمع جواباً محدداً: في البداية قد لا يكون رد الفعل مؤثراً، تظاهرات ساخطة واحتجاجات مدوية، وربما بعض الأعمال الانتقامية المحدودة، ثم يسود الحزن، ويتعاظم اليأس الى حد تفجير الذات بالآخرين… ولست بقادر على تصور استمرار أي من هذه الأنظمة العربية القائمة، ولست أفترض انك تستطيع طمأنتها الى استمرارها، وستكون فوضى هائلة، تلجأ فيها أكثريات عربية الى الملجأ الأخير الباقي: الإسلام، وسيتعمق العداء للغرب، وستتوحد صورة أميركا وإسرائيل بما يؤكد الظن بتحالف على قاعدة دينية بين مسيحية غربية ويهودية صهيونية، ويصبح اللجوء الى الإسلام ضرورة لا بديل منها وطريقاً وحيد الاتجاه..«.
أما في القاهرة فيرد من تسأله الأسئلة إليك:
(تتمة المنشور ص1)
»ما العمل؟! وماذا تستطيع مصر ان تفعل أكثر مما فعلت فعلا، أو هي تجتهد لأن تفعله، مثل نصح القيادة العراقية بتجنب مناطحة الثور الهائج، والمسارعة الى تنفيذ قرارات مجلس الأمن، وإبطال الذرائع الأميركية،
».. ثم، محاولة إيصال العرب الى موقف موحد، ولو على قاعدة الحد الأدنى، أي ضمان السلامة الذاتية لكل بلد، أو ان شئت لكل نظام عربي… لا تصدق ان ثمة نظاماً عربياً واحداً تبقى له أي شعور بالأمان اطمئناناً الى صداقته التاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية. هذه الحقيقة تساعدنا في محاولة بناء مثل ذلك الموقف الموحد. ونعتمد في هذه المحاولة على العلاقات الوثيقة والوعي المشترك بالمخاطر الذي يجمعنا مع الرئيس بشار الأسد في سوريا ومع الأمير عبد الله في السعودية«.
»ما العمل؟! قد لا يعجبك تقدير الموقف الذي ننطلق منه، لكنه الممكن: محاولة تجنب المجابهة أو المواجهة أو التصدي المباشر للهياج الاميركي. ان الاميركيين يتصرفون مستهينين بالعالم كله، بالمشاعر والعواطف والمصالح. وهذا المسلك سيؤدي الى كوارث وطنية، ولكنها ستعمق العداء لأميركا التي صار لها ملامح إسرائيل شارون ذاتها… فمن يضمن، اذا ما اجتاح الاميركيون العراق، ألا تتوالى الانهيارات في المنطقة العربية عموماً، ومجمل أنظمتها إما »صديقة« وإما غير معادية للأميركيين… أما من هو البديل، فالله أعلم… وفي كل الحالات ربنا يستر«!
* * *
مصر مثقلة بمشكلاتها الكثيرة، وأخطرها أزمتها الاقتصادية التي فاقمها النهب المنظم لمليارات الدولارات وهي »عمليات قذرة« تواطأ فيها مصرفيون كبار مع منتحلي صفة »رجال الأعمال« وأدت الى نزف خطير في احتياطي العملة الصعبة، وانعكست على مجالات فرص العمل والانتاج والتصدير وقدرة الدولة على إنجاز بعض مشروعاتها الانتاجية الكبرى.
… وفي عز الأزمة، توقفت بقرار سياسي (أميركي حتماً)، قوافل السياح عن القدوم الى مصر، لتزيد من حدة المصاعب، ولتزيد من ثقل الضغوط طلباً لتنازلات سياسية، يستوي ان تكون في الموقف من الحرب الاسرائيلية على فلسطين شعباً وقضية، أو الحرب الاميركية العتيدة ضد العراق، شعباً ونفطاً وكياناً سياسياً له خصوصيته الفائقة.
»كل شيء هادئ« في مصر، لكنه هدوء المقهور قبيل الانفجار أكثر منه هدوء اليائس الذي استسلم للقدر الاميركي الاسرائيلي ولا حول ولا قوة الا بالله…

Exit mobile version