طلال سلمان

عن مذكرة تفاهم كمخرج من حرب اخوة

تلقيت من الرئيس سليم الحص الرسالة التالي نصها:
تحية طيبة وبعد،
كان مقالكم اليوم لماذا التحاور عن بعد؟ معبّراً عن واقع مرير وخطير يعيشه اللبنانيون هذه الأيام في حمأة سجالات متمادية تهدد وحدة الشعب ووحدة الوطن. ولكن المقال يفترض أن لا رأي في البلد إلا لأربعة: ثلاثة منهم في مواجهة واحد صورتموه وكأنه مستفرد لا نصير له.
إنني استغرب أن مذكرة تفاهم يوقعها خمسة رؤساء وزراء سابقين لم يكن لها أي ذكر في مقالكم، وهي محاولة جدية لتحدي الواقع واختراق الساحة المحتكرة وكسر حدة الفرز المذهبي والطائفي في البلاد. كذلك لم يأتِ المقال على ذكر موقف مسيحي متميز وجريء هو موقف العماد ميشال عون وتياره.
إنكم في تركيزكم على أربعة اطراف حصراً تساهمون، ولو من حيث لا تقصدون في تعقيد الموقف، وتشجعون أطراف الخصام على المضي قدماً في خطهم المدمّر.
مع كل الاحترام .
? ? ?
بداية لا بد من كلمة شكر للرئيس سليم الحص على مبادرته إلى تنبيهنا إلى ما كان ضرورياً أن نتنبه إليه في مذكرة التفاهم التي تلاقى على توقيعها كل من الرؤساء أمين الحافظ، رشيد الصلح، سليم الحص، عمر كرامي ونجيب ميقاتي، لأسباب عدة أهمها ما يتصل بمضمونها وبتوقيتها ثم بالروح الوطنية التي تضجّ بها وتجعلها أشبه بجرس تنبيه للبنانيين، بقياداتهم السياسية، ثم بجمهورهم العريض إلى خطورة اللحظة التي يعيشون وما تنذر به من أهوال، إذا هم لم يتصدوا لريح السموم التي تهب عليهم وتكاد تسحبهم بعيداً عن آمالهم وأحلامهم في وطن للحياة.
ولعل ضجيج صيحات الحرب الذي طغى فغطى على المنطق، في الأيام القليلة الماضية، قد شغلنا عن صوت العقل الذي تضيق عليه المساحة باستمرار، وخصوصاً أن التطرف في المواقف يجرف الاعتدال الذي هو شرط حياة لكيان سياسي مركب مثل لبنان.
وصيحات الحرب تلك التي تقصف اللبنانيين بحمى التعصب الطائفي والمذهبي تكاد تغطي على أكثر الأصوات تعقلاً واعتمادا للمنطق الوطني في معالجة الوضع المعقّد والصعب الذي تواجهه
البلاد والذي يهدد العباد بالاختناق في مستنقع الأغراض والأحقاد والأمراض المستشرية في مجتمعنا الذي كان متوهّجاً بكفاءة أبنائه وقدراتهم بل وتفوقهم المعززة بروح اقتحام الصعب لاستيلاد الأمل بغد أفضل.
في حين أن مذكرة التفاهم التي أصدرها رؤساء الوزراء السابقون تطمح بل وتستحق ان تكون أساساً متيناً لصياغة برنامج إنقاذ وطني يتلاقى عليه الأطراف جميعاً.
فالمذكرة تصحح النظرة إلى الحرب الإسرائيلية التي بات تحديد المسؤولية عنها، الآن، نقطة افتراق أو اختلاف بين اللبنانيين.. هذا في حين أن الإسرائيليين لا يتورعون عن التحدث عن أنها حرب كانت مقررة فعلاً، وقد أفادت إسرائيل من أسر الجنديين للاندفاع إليها، ثم ارتبكت وكادت توقفها.. لكن القرار فيها تمّ بالأمر الأميركي والاستمرار فيها كان بالأمر الأميركي. ثم ان إسرائيل هي التي ألحت على وقف النار بعدما ضمنت تحقيق أهدافها عبر مجلس الأمن الدولي، وأن بعض مضمون القرار 1701 كان جاهزاً في انتظار لحظة مناسبة لتمريره كقرار، فجاءت اللحظة وكان القرار الميمون بعد تعديلات فرضها شيء من التراجع الفرنسي وقدر متواضع من التأثير العربي.
والحمد لله أن الرئيس فؤاد السنيورة قد اهتدى أخيراً إلى هذه الحقيقة، التي كان يقفز عنها في بيروت، فضمنها كلمته أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ فقال ما حرفيته: هناك من يريدنا أن نصدّق ان الحادث الحدودي، وأقصد بذلك خطف حزب الله لجنديين إسرائيليين خلف الخط الأزرق كان سبباً لذلك كله..
وإسرائيل ذاتها تعطي لنفسها الحق بخطف مدنيين لبنانيين واحتجاز ليس العسكريين فقط بل أعضاء في البرلمان الفلسطيني، بمن فيهم رئيسه، إضافة إلى وزراء في الحكومة.. .
ولعل الرئيس السنيورة قد اقتبس من مذكرة التفاهم هذا التصحيح لموقف مغلوط كان لا يرى في الحرب إلا خطأ حزب الله الذي أدى إلى رد الفعل الإسرائيلي الوحشي الذي امتد لثلاثة وثلاثين يوماً بلياليها، حتى أنجز تدمير البنية التحتية والمرافق العامة، فضلاً عن تهديم أكثر من 15 ألف مسكن، وارتكاب العديد من المجازر ضد المواطنين العزّل وقتلت غاراته فيها أكثر من ألف وأربعمئة لبناني، ثلثهم من الأطفال.
إن مذكرة التفاهم أكثر من جرس إنذار ينبّه الاطراف التي فقدت القدرة على التواصل إلى خطورة الاوضاع العامة في البلاد التي لا تحتمل كل هذا التأجيج لنار الخلافات التي امتدت ألسنتها لتطال البديهيات والثوابت الوطنية وأسقطت عن إسرائيل، أو كادت، بعض ملامح العدو وعممتها من ثم على خصومها المحليين.
لقد أخذ العمى السياسي، بالغلّ أو بالحقد أو بالغرض، البعض إلى المساواة بين اقتتال أبناء الوطن الواحد (عين الرمانة) وبين القتال المشرّف والباسل ضد العدو الإسرائيلي كما في بنت جبيل ومارون الراس وعيترون الخ.
كذلك أخذت حمى الغلط بعض الاطراف إلى إنكار ماضي التحالفات التي كان يمكن إذا ما استكملت حلقاتها أن تحقق شيئاً من التوازن في الحياة السياسية، وبالتالي شيئاً من الاستقرار النفسي.
لقد جاءت مذكرة التفاهم متوازنة تماماً في مواقفها من القضايا المطروحة، ومؤهلة بالتالي لأن تفتح آفاق التسوية السياسية المطلوبة:
فهي أكدت ان الحرب كانت مقررة إسرائيلياً ومكتوبة على لبنان.
ثم إن انتصار المقاومة كان بيّناً بمعنى أن إسرائيل لم تستطع ان تحقق أياً من أهدافها..
وقضت الحرب على أسطورة إسرائيل كقوة لا تقهر، وقضت على دور إسرائيل الأمني على المستوى الاقليمي، وبالاستطراد على مشروع الشرق الأوسط الكبير.
كذلك فهي قد عزّزت ونمّت ثقافة المقاومة في العالم العربي.
وبالمقابل، حسب نص المذكرة، فإننا نخالف رأي الذين يقولون إن سلاح المقاومة وجد ليبقى .
إن هذه المذكرة كانت وما تزال صالحة كأرض للحوار بين القوى التي ترغب حقاً وتسعى حقاً إلى حياة سياسية مستقرة تضمن تعزيز الوحدة الوطنية والارتباط بالوطن، أرضاً ومصيراً.
ونتمنى أن تهدأ فورة الحماس، فيهدّئ القادة من روعهم بعدما اطمأنوا إلى تعبئة جمهورهم… فتكون عودة إلى العقل وإلى واقع ان لا وطن لجميع اللبنانيين إلا هذه الأرض التي حباها الله جمالاً أخاذاً ثم عاقبها بسياسيين غالبيتهم من صنع الجحيم!

Exit mobile version