طلال سلمان

عن قمة عربية في كويت حلم اضاء لحظة ثم انطفا

قبل أن ينبلج الصباح كان حلم التوافق العربي قد تبخر مخلياً المساحة، مرة أخرى، لكابوس الخلافات العربية ـ العربية التي توهمنا أمس الأول، وبعد خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز تحديداً أنها قد طويت أو أنها في طريقها إلى الانطفاء مخلية المساحة لمرحلة جديدة من التفاهم أو التوافق الذي لو أنه أنجز لجاء »أجمل من أن يكون حقيقياً«!كل ما نتج عن الخطاب الملكي المباغت بلغته التي جاءت من خارج النص الرسمي السعودي، فشعت فيها الحماسة والوجع ورفض المذبحة الإسرائيلية ضد أهل فلسطين في غزة، وبرزت فيها نبرة التلويح بإعادة النظر في »المبادرة العربية للسلام«، لقاء مصافحة فمصالحة متعجلة إلى مائدة غداء، عاد بعدها كل طرف إلى مواقعه.. إياها!لا ليل اللقاءات والمجادلات الطويل انتهى إلى تبديل في المواقف، ولا محاولات إيجاد حل وسط التي بذلها الأمير الكويتي بعناد المؤمن بضرورة المصالحة حفظاً لما تبقى من مكانة للعرب ومن كرامة، نجحت في زحزحة أي طرف عن موقفه أو موقعه من تحالفاته…. ولا صباح التفاوض المفتوح حول بيان مشترك ينقذ ماء وجه القمة ويوحي للناس (أو يوهمهم) بتوافق ما، أو بقرب التوافق أو حتى باحتمال التوافق بعد حين، نجح في زحزحة مواقف الأطراف المختلفين على كل عبارة، بل كل كلمة، بل حتى على مواقع النقاط والفواصل في بيان إعلان الفشل المؤهل لتجديد الحرب العربية ـ العربية حتى من قبل أن تجف دماء الشهداء في غزة، ومن قبل أن ترفع جثث النساء والأطفال والشيوخ المغتالين والمدفونين تحت ركام منازلهم التي تحولت إلى نثار من غبار الإسمنت والحديد!وعندما عجز القادة عن التوافق أحالوا الأمر إلى الوزراء لعلهم ينجحون ـ وهم الخبراء في تدبيج اللاموقف ـ في كتابة بيان لا يطمئن ولا يخيف، فعجز الوزراء، وهكذا أحالوا المشروع إلى لجنة منهم، لكن اللجنة فشلت هي الأخرى، فاختصروا عددها إلى ثلاثة جهابذة فأعملوا عقولهم وخبراتهم حتى انتهوا إلى التفاهم على بضعة سطور كل كلمة فيها تنفي ما قبلها… وأعيد البيان صعوداً إلى القمة فلما تحققوا من أنه لا يتعهد بشيء ولا يبدل في موقف ولا يسجل لأحد نجاحاً أو على أحد تراجعاً، أقروه، وسمحوا للمضيف الكويتي بأن يدعو إلى الجلسة الختامية التي ستعلن فيها وفاة القمة دون التمنيات بتحقيق قدر من الوفاق، ولو على قاعدة الحد الأدنى.كان الجو داخل القاعة الأنيقة حين أعلن أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح افتتاح الجلسة جنائزياً.. وزاد من بؤسه مفارقة أن يقطع المضيف استهلاله ليستأذن بالخروج للحظات، تبيّن ـ من الشاشات ـ أنها كرّست لوداع الملك السعودي ومفاجأته المفرحة التي كانت مجرد التماعة عابرة أشاعت جواً من الارتياح ثم انطفأت وعاد ظلام الخلافات يلف الجميع..ثم سرعان ما تنبّه الحضور إلى أن بعض القادة قد انصرفوا (المصري بعد جلسة المصالحة، الاثنين مباشرة، والإماراتي أيضاً، ثم التونسي والبحريني والقطري)..أما المفارقة الثانية فتمثلت في أن تكون الكلمة الأولى في قمة الوداع لرئيس دولة جزر القمر، الذي قدم شرحاً مستفيضاً عن جزره الضائعة في المحيط، مقابل الساحل الأفريقي، والتي وصفها بأنها »القصيدة العربية الساحرة« و»الدولة العربية البكر« و»جنة الله على الأرض« و»شجرة عربية مثمرة في محيط غير عربي«، داعياً إلى الاستثمار في السياحة والصيد وبناء البنية التحتية لتكون مؤهلة لاستقبال الذاهبين في إجازة رأس السنة أو في شهور العسل!وبرغم تسجيل سابقة حضارية في القمم العربية تمثلت في السماح لسيدة أردنية تمثل المجتمع المدني ولصبية مغربية تمثل الشباب، بالكلام أمام القادة وجيوش الوزراء والمرافقين وشاشات الفضائيات، للإيحاء باللحاق حضارياً بالأمم المتقدمة، فإن هذه المبادرة قد انقلبت إلى مشهد كاريكاتوري في الحفل الجنائزي العربي الفخم!ولقد اجتهد الرئيس اللبناني العماد ميشال سليمان في إعادة الاعتبار إلى بعض الكلمات التي اغتالها جو الانقسام، فدعا ـ بعناد ـ إلى التوافق وإلى نصرة فلسطين وإلى حماية العروبة بوصفها مظلات الأمان بالنسبة للجميع… لكن الكلمات الطيبة ضاعت وسط جو الكآبة والقلق والخوف من اليوم التالي للقمة المجهضة!اتخذ الخلاف عنواناً مضخماً له من اجتماع الدوحة، وتحديداً من دعوة الرئيس الإيراني إليه وإعطائه كلمة فيه، فضلاً عن دعوة فصائل المقاومة الفلسطينية والسماح لخالد مشعل بأن يتحدث أمام المجتمعين الذين تحوّطوا لهذا الأمر فخفضوا من سقف لقائهم بأن ابتعدوا عن استخدام كلمة »قمة« في توصيفه، كما أنهم راعوا في كلماتهم ـ كما في كلمات ضيوفهم ـ أن تستفز أو أن تحرج فتخرج أقرانهم الغائبين، مما يؤدي إلى نسف قمة الكويت..[ [ [برغم هذا الجو الكئيب فإن الرئيس السوري بشار الأسد غير قلق، على حد ما قال لـ»السفير«: لقد جئنا ونحن نعرف واقعنا. نعم نحن مختلفون. لكن هذا الخلاف المعروفة أسبابه وخلفياته لا يدفع إلى اليأس، بل يحفز على بذل المزيد من الجهد لإعادة تعريف »العدو« والتفريق بينه وبين الصديق. ليس للمقاومة إلا اسمها: المقاومة، وليس للعدو إلا صفته الثابتة كعدو. ومهما اختلفا فلسوف يظل العدو عدواً، بشهادة الدم المسفوح في غزة وقبلها في كل فلسطين ثم في لبنان خلال حرب تموز. وسنواصل العمل لإعادة الاعتبار إلى المفاهيم الأصلية التي عليها تبنى السياسات. ولا خوف مع الوضوح. وطالما أن المواقف واضحة فالخلاف المعلن جهراً أفضل من التظاهر بتفاهم شكلي سرعان ما سوف يتكشف عن مأساة!بالمقابل فإن وزير خارجية الأردن كان يقدم الخوف من »الإخوان المسلمين« على كل ما عداه، حتى إسرائيل الخارجة من حربها على غزة ودماء الفلسطينيين تغطي وجهها ويديها… قال لنا: هناك ثمانون مليوناً من المسلمين يتعاطفون مع »الإخوان«، أتعرفون ما معنى ذلك؟ إنهم مصدر خطر هائل وداهم! وأنا أتفهم مخاوف مصر التي لا تولونها الأهمية المطلوبة! وكذلك إيران، هي لبعضنا مصدر خطر جدي أيضاً!في الاجتماع الوزاري المغلق قالها وزير خارجية مصر صريحة مطلقة: لن نعترف بالدوحة أو بأي شيء صدر عنها! إنها مؤامرة ضد مصر، وضد عروبة الخليج! لن نقبل بحرف في وثيقة هذه القمة عن الاجتماع الذي تصدّرته إيران في الدوحة. لقد نظرنا إلى ذلك اللقاء على أنه يستهدف مصر.ما لم يقله أحمد أبو الغيط بصراحة أن غزة بحماس فيها، وهي هي »الإخوان« تشكل خطراً على مصر أكثر مما تشكله على إسرائيل، وبالتالي فهي مشكلة داخلية مصرية..أما المسؤول الإماراتي الكبير فقد وجد في اللقاء فرصة لإثارة موضوع الخطر الإيراني على عروبة دولة الإمارات بل وعلى الخليج العربي ـ بل الجزيرة العربية جميعاً: لدينا ثلاثمئة وخمسون ألف إيراني، مئة وخمسون ألفاً منهم يحملون جنسية بلادنا لأنهم وُلدوا فيها، والآخرون وافدون ولكنهم يقيمون إقامة دائمة عندنا… كيف يمكننا أن نغفل عن هذا الخطر؟!وبطبيعة الحال فإنه لم يجب عن السؤال: وماذا عن ملايين الوافدين الآخرين، وبالذات الهنود، ومن بعدهم الباكستانيون والبلوش والآتون من بنغلادش والفلبين..[ [ [عند باب الخروج، كان المضيف ـ أمير الكويت يرسم ابتسامة للمصورين، لكن الحزن كان يطل من عينيه: لقد بذل جهوداً جبارة من أجل إنجاح القمة، وفي لحظة ما بدا كأنه نجح… ثم سرعان ما عادت الخلافات العميقة تطل بقرنها من أربع زوايا القاعة الأنيقة.قال لنا: ليست هذه النهاية. سنواصل جهدنا، ولا شك أن مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز تشجعنا، كما أننا نعوّل على حكمة الرئيس السوري بشار الأسد، وتعاون سائر الأشقاء.وقال لنا بعض من يعرف الشيخ صباح الأحمد جيداً: إنه حكيم، وهو خبير محلف في الشؤون بل في الخلافات العربية. وهو يتفهم جيداً المخاوف المصرية المتعددة المصادر: من إسرائيل ومن »الإخوان المسلمين« الذين يرى فيهم النظام طابوراً متقدماً للزحف الإيراني… والمسؤول المصري استثمر أعظم استثمار »الخطأ« الذي »تورّط« فيه السيد حسن نصر الله حين أشار في بعض خطبه إلى الجيش المصري، وعرض بمؤسسة الرئاسة! لقد اعتبر ذلك أمر عمليات إيرانياً، ومن هنا كان الرد بشن حملة عاتية ومسفة التعابير على الأمين العام لـ»حزب الله« بوصفه تابعاً لإيران، والتركيز على نشر صورة قديمة له يقبّل فيها يد القائد الإيراني آية الله خامنئي، ليخلص منها إلى اعتبار »حماس« مثلها مثل »حزب الله« تنظيماً إيرانياً، وهكذا فإن الخطر بات له مصدران: إيران والإخوان المسلمون وقد اجتمعا عليه معاً… هذا قبل أن نستذكر ضعفه الفاضح تجاه إسرائيل، ثم ضعفه المخزي تجاه الإدارة الأميركية.[ [ [الخلافات كثيرة وعميقة الجذور، والفرز مطلق فلا وسيط نزيهاً أو محايداً مسموع الكلمة، ومهاباً بالقدر المطلوب لكي يكون مقبولاً. ثمة انقطاع بين العرب الفاعلين، فالخطوط صماء، ولا أحد يسمع الآخر!ثم إن في واشنطن إدارة جديدة، والبعض يعلق عليها من الآمال أكثر مما يجب، وبعض آخر ينتظر أن يسمع منها ما يشجعه على الانفتاح عليها بعد قطيعة طويلة وصلت إلى حافة العداء.وبالتالي فإن ساعة تعديل المواقف لم تدق بعد.وأي مسألة، وكل مسألة، تعيد إلى السطح الخلافات جميعاً: من السلطة في فلسطين؟ هل الشرعية لمحمود عباس ومن معه فقط؟ وأين حماس؟ ألم تفز في انتخابات ديموقراطية شهد عليها ـ في جملة من شهد ـ الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، وهو »ديموقراطي« ومن حزب الرئيس الأميركي الجديد، بالمناسبة؟!استطراداً: لمن يعطى المال الذي تبرع وقد يتبرع به بعض الدول العربية، والذي سيكون الأساس الذي سيبنى عليه مؤتمر الدول المانحة بعد شهر أو أقل؟ هل سيقسم بين السلطة وحماس؟ وكيف؟ أليس في ذلك تكريس لتقسيم (عربي) هذه المرة لفلسطين؟! ومن يتحمل مسؤولية تفتيت فلسطين مرة أخرى؟بعض مسؤولي السلطة قال مازحاً نكتة سوداء: يا أخي اعطونا المال وخذوا إضافة إلى غزة القدس ورام الله ونابلس وطولكرم ومعها بيت لحم كمان!أما تلك القلة من المسؤولين العرب ممن يستشعرون الخطر الداهم الذي يتهدد الجميع فإنهم يتخوفون من تفجر مسلسل من الحروب الأهلية التي قد تبدأ فلسطينية ـ فلسطينية ثم تمتد إلى كل دولة توجد فيها كثافة سكانية فلسطينية ستجد نفسها ـ مرة أخرى ـ أمام مخاطر الضياع واندثار الهوية والقضية.[ [ [في قمة الكويت سقطت ضحايا عزيزة على القلوب أولاها جامعة الدول العربية التي يحييها الاتفاق في حين يذهب بها الخلاف إلى انعدام الدور فالاندثار.وبرغم براعة عمرو موسى ودبلوماسيته ولياقته فقد تبدى وكأنه طرف ومنحاز إلى أحد المعسكرين، على كونه حاول بخبرته العريقة التذرع بنصوص ميثاق الجامعة التي لا تعتبر أي اجتماع قمة إلا بتوفر الثلثين لعدم الذهاب والمشاركة في قمة الدوحة والاعتراف بقراراتها… ولقد ضيّعت قطر دور الوسيط الدائم والمقبول من الجميع برغم أثقال الاتهامات الموجهة إلى حكومتها بأنها تلعب بالبيضة والحجر وتبيع الأوهام للجميع، نتيجة خبراتها فيهم، وقنواتها الموصولة بأكثر من سنترال، فالخطوط مفتوحة مع الغرب والشرق، مع عرب المقاومة ومع إسرائيل، مع عرب الاعتدال ومع إيران..لكن البعض يرى أن قمة الدوحة كانت »غلطة الشاطر«، خصوصاً بدعوة نجاد وحماس معاً إليها، ولم يخفف من »جريمتها« أن الجميع انضبط تحت السقف الذي حددته ـ بالتوافق قطعاً مع القيادة السورية ـ بحيث خلت الكلمات من أي تحريض على هذا النظام أو ذاك، كما أن كلمة خالد مشعل لم تتعرض أو هي لم تضف أسباباً جديدة للانقسام الفلسطيني… فضلاً عن أن دعوته كان هدفها بالأصل إتمام المصالحة بين »الفصائل« ومحمود عباس، الذي وُجهت إليه الدعوة فتذرع بألف حجة حتى لا يجيء، ثم وقف في الكويت وكأنه يمثل فلسطين جميعاً، وهذا غير مناسب للمصالحة فضلاً عن أنه غير واقعي![ [ [إلى أين من هنا؟!هذا هو السؤال المقلق الذي يجتهد كثيرون في محاولة صياغة جواب مطمئن عليه، لكن المعطيات المتوفرة لا تساعد على تحديده بدقة.يسهل القول: ما بعد الكويت مثل ما قبلها..ويسهل أكثر القول: كلنا في انتظار أوباما… فهو »ساحر« استطاع تخطي الحواجز جميعاً والوصول إلى حيث لم يكن يحلم أي »أسود«. وهو يريد أن يحقق نجاحاً في أزمة خطيرة مثل أزمة الشرق الأوسط. والكل ينتظر ما سيكون منه. ولذا فالحل سيأتي من عنده، أو عبر مدى التغيير الذي سيحدثه في سياسة بلاده إزاء الصراع العربي الإسرائيلي بعنوانه الفلسطيني…. والقمة العربية التالية موعدها قريب من نهاية مهلة المئة يوم التي تعطى لكل رئيس أميركي جديد… فهي في أواخر آذار المقبل.فهل يمكن مسح دماء غزة بحل عربي قبل ذلك التاريخ؟ذلك هو السؤال الذي عجزت القمة العربية عن توفير جواب عنه أو عليه.

Exit mobile version