طلال سلمان

عن قرار ميت 1559 وثرثرة سفيرة اميركية

يمكن التأريخ للحقبة السوداء التي عاشها لبنان طوال الخمس سنوات الأخيرة بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559 الذي أنشئ عبر ليل طويل يمكن تحديد منطلقه مع اتخاذ الرئيس الأميركي السابق جورج .و. بوش قراره الإجرامي باحتلال العراق، مقدماً له بوصفه أنه من نسل الحروب الصليبية على هذه المنطقة العربية.
لم يعد سراً، الآن، أن هذا القرار قد تمّ طبخه في الغرف الدولية السوداء، وبعد مساومات طويلة خاضها الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك مع «قائد الحملة الجديدة» ـ بطل المذبحة ضد عروبة العراق وكيانه ـ حول حصة فرنسا في هذا الشرق العربي، النفط بداية، وسوق السلاح ثانياً، ولبنان أولاً من قبل ومن بعد.
كان القرار بمثابة إعلان حرب على كل من وقف (أو سيقف) ضد الاحتلال الأميركي لأرض الرافدين، وفي سياقه كان التركيز على إنهاء الدور السوري في لبنان، كتأديب لدمشق ممثلة بقيادتها التي جهرت باعتراضها القوي، مراهنة على ما لم يتحقق من مقاومة عراقية واسعة تشمل الشعب (والحزب خصوصاً) والجيش الكبير الذي كان له ـ تاريخياً ـ رصيد ممتاز.
وكان البيت الأبيض يضمن تأييداً واسعاً بين أهل النظام العربي، في حربه على العراق، ليس سببه الوحيد طغيان صدام حسين وطموحاته التوسعية (غزو الكويت، كانتقام ممن قاتل إيران الثورة الإسلامية لحسابهم، ثم تخلوا عنه وهربوا بملياراتهم من مطالبتهم تعويضه ما دفعه من دماء العراقيين وثروتهم الوطنية… وذلك حديث آخر).
ثمة شواهد كثيرة، بينها ما بات معروفاً ومثبتاً في كتب أرّخت للتحوّل المفاجئ الذي طرأ على الموقف الفرنسي من الحرب الأميركية على العراق، أخطرها وأشهرها الخطاب الاستثنائي الذي ألقاه وزير خارجية شيراك آنذاك دومينيك دو فيلبان أمام مجلس الأمن، وكذّب فيه الادعاءات الأميركية حول امتلاك صدام حسين السلاح النووي كتبرير لقرار بوش بإعلان الحرب…
وافترض جاك شيراك أن حصته من الصفقة ستكون توسعاً للمدى الحيوي لنفوذ فرنسا ودورها في المنطقة عموماً، وانطلاقاً من لبنان.
وشهير أمر «الصفقة» التي تمت بين الرجلين خلال اجتماعهما في حزيران 2004 في النورماندي بفرنسا (على هامش الاحتفالات بالذكرى الأربعين للإنزال الأميركي على شاطئها)، تتويجاً لما كان قد اتفق عليه متصلاً بقرار الحرب على العراق… ولقد كتب الكثير عن هذه الصفقة التي كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري قد عرف بأمرها، وحاول فلم تساعده الظروف على إبلاغها إلى القيادة السورية، كما كان يردد أمام أصدقائه، وأمام المسؤول السوري الوحيد الذي التقاه في ما بعد، مظهراً أسفه «لأنهم لم يسمعوا مني في دمشق ما أعرفه، وما كان قد يساعد على استعداد أفضل للمواجهة».
كان القرار إعلاناً بمباشرة التدخل الأجنبي، وبكل الوسائل، لإخراج سوريا من لبنان «مكسورة»، والتفرّغ لمحاصرة «حزب الله» بالفتن المنذرة بحرب أهلية مفتوحة، وكل ذلك بذريعة «تأكيد السيادة اللبنانية» تحت ظلال الأعلام الفرنسية والأميركية، بما يوفر مزيداً من الأمان لإسرائيل وخططها التوسعية في الأراضي الفلسطينية التي كانت قد «منحت»، نظرياً، للسلطة التي لا سلطة لها في رام الله.
ولقد تنبّه عدد من السياسيين وقادة الرأي في لبنان لمخاطر هذا القرار، على «السيادة والاستقلال» بداية، ثم على المقاومة التي كانت قد أنجزت قبل أربع سنوات فقط التحرير وأجبرت الاحتلال الإسرائيلي على الجلاء مطهّرة أرض الوطن معززة كرامة شعبه… فنبّهوا إلى أن هذا القرار سيكون المدخل إلى تصادم مع سوريا، التي كانت قد باشرت سحب جنودها في اتجاه تنفيذ الاتفاق بالخروج من بيروت ومعظم المناطق والتمركز في البقاع، لحماية «الخاصرة السورية الرخوة» من احتمالات أي هجوم إسرائيلي يستهدف دمشق…
ذلك من الماضي…
أما اليوم وقد استعاد لبنان مرتكزات دولته وقامت فيه حكومة وحدة وطنية تضم بين جنباتها ممثلين للمقاومة (ممثلة بـ«حزب الله»)، وفتحت أبواب التفاهم مع دمشق (بعد كل ما كان من أزمات ومواجهات معظمها لحساب الغير، وأقلها لأسباب محلية تتصل بالمنافسات السياسية بأسلحة طائفية أو مذهبية)…
أما اليوم واللبنانيون يعودون إلى وعيهم بمصالحهم الوطنية وقد اعترف الكل بالكل، وطُويت أسباب التأزم في العلاقات مع سوريا، وقد تداخل فيها سوء الظن مع سوء التقدير مع استثمار الدم المراق غيلة، مع الاستغلال الخارجي للحساسيات الداخلية.
أما اليوم، وقد انكشف المستور من أهداف ذلك القرار الدولي، فضلاً عن أن «مندرجاته» لم تعد ذات موضوع.
… فمن حق اللبنانيين أن يعتبروه من الماضي، وأن يسقطوه من اعتبارهم، وأن يشطبوه ـ رسمياً ـ من جدول أعمال حكومتهم، بل وأن يعتبروا أية إشارة إليه أو التوقف عنده وكأنه مصدر للقرار في بيروت، تدخلاً فظاً في شؤونهم الداخلية وتحريضاً متجدداً لبعضهم ضد البعض الآخر، وخدمة لإسرائيل يدفع اللبنانيون ثمنها من سلامهم الداخلي ومن سعيهم إلى تعويض ما ضاع عليهم من مصالحهم خلال هذه الحقبة السوداء.
بهذا المعنى يصبح كلام السفيرة الأميركية في بيروت التي أطلقته أمس، علناً، وبوقاحة تُحسد عليها، تدخلاً فظاً في الشؤون الداخلية للدولة اللبنانية ذات السيادة المكتملة…
ومن قبل كان كثير من اللبنانيين قد رفعوا الصوت مطالبين بإلزام السفراء عموماً بالامتناع عن الإدلاء بتصريحات علنية ـ غالباً ما تكون مستفزّة ـ في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة، كما هو متبع في مختلف أنحاء العالم.
اليوم، علينا أن نكرّر المطالبة: أسكتوا هذه السفيرة الثرثارة، وألزموها بما تنص عليه المواثيق والأعراف الدولية، وما تقتضيه مبادئ السيادة الوطنية.
ليست السفيرة سيسون مَن يقرّر للبنانيين سياساتهم.
وليس هذا تجاوزاً منا على سفيرة دولة عظمى، بل إن سعادة السفيرة هي التي تتجاوز، ومن الضروري وقفها ـ وسائر السفراء ـ عند حدودهم.

Exit mobile version