طلال سلمان

عن علاقات بين لبنان وسوريا ما قبل وليد جنبلاط وبعدة

من حق «المواطن الطبيعي» في لبنان أن يعتبر نفسه طرفاً أساسياً في النقاش الدائر حول «الرسائل» التي وجهها وليد جنبلاط إلى القيادة السورية، عبر «السفير» بداية، ثم عبر «قناة الجزيرة» مساء يوم السبت الماضي…
فليس ما قاله، وقد يضيف إليه غداً، وليد جنبلاط «رسائل شخصية»، بمعنى أنها لا تعني أحداً غيره وغير المرسلة إليه في القيادة السورية بدمشق…
بل إن هذه «الرسائل» هي، بدلالاتها الفعلية، مشروع مراجعة نقدية لتجربة سياسية قاسية تحمَّل لبنان (وسوريا) نتائجها المريرة، في مرحلة بالغة الصعوبة، وبالتالي فهي تعني اللبنانيين جميعاً، ومعهم السوريون جميعاً، وإن كان مقصدها المباشر القيادة السورية.
لقد دفع اللبنانيون جميعاً، وأكثر من السوريين بالتأكيد، الكلفة الباهظة لتلك التجربة المريرة، من استقرار وطنهم الصغير، ومن توحّد أهله حول أهدافهم الواحدة، ومن فرص تنمية موارده والإفادة من طاقاتهم وقدراتهم، ثمناً باهظاً لتلك الخلافات أو الصراعات التي أفسدت عليهم حياتهم وسمّمت مناخ الأخوة في ما بينهم، إذ تمّ تضخيم الاختلافات والفروقات العارضة لتصغير وتقزيم وتشويه المشترك بينهم، وهو بين ركائز وجودهم وضمانات استمرار كيانهم المستقل بنظامه الفريد.
هي خمس سنوات طويلة من الانشقاق والافتراق، أصاب خلالها الضرر كل ما كان يجمع اللبنانيين على قواسمهم المشتركة وطنياً.
هي خمس سنوات مثقلة بالفواجع والآلام، وضعت البلاد على حافة الحرب الأهلية مراراً، إذ دمّرت الدولة وفكّكت مؤسساتها وفرزتها شققاً للطوائف والمذاهب، وحرمتها على «مواطنيها الطبيعيين».
هي خمس سنوات معتمة استكمل خلالها ما كان قد بوشر من قبلها، وإن بوجهة مغايرة الآن.
الطريف أن الخصوم المستجدين للحقبة السورية، والذين كانوا من قبل صنائعها ومزيني أخطائها، قد اعتمدوا الأساليب نفسها مع حلفائهم إلى ما قبل شهور وأسابيع… وهكذا تمّ اغتيال العمل السياسي الطبيعي، وتمّ استكمال عملية القضاء على العمل الشعبي عموماً، عبر حصره بفئات واتجاهات محددة، وأعيد الاعتبار إلى منظمات وأحزاب دخلت السياسة من باب الميليشيا ومواجهة المقاومة الفلسطينية بالسلاح جنباً إلى جنب مع العدو الإسرائيلي… واندثرت النقابات بعدما توزعت مسمياتها حصصاً طائفية ومذهبية، ولا عمال أو من يحزنون، وصودرت الهيئات والمنظمات الجامعة حتى الكشفية منها، ووزعت حسب نظام الكوتا الطائفية والمذهبية…
فعلياً، أكمل أصحاب «ثورة الاستقلال» ما كان معتمداً من قبل، بعد تغيير في بعض المسميات والرايات والشعارات.
ومن جديد، توجّب على «الشعب» أن يدفع كلفة الخطايا والأخطاء التي ارتكبت مرتين وأوصلته إلى واقعه المزري والمهين من الفرقة والتغرّب عن الذات.
وهكذا صار سهلاً دفع الشعب المنقسم على ذاته بالأمر، وبالتهييج المقصود، وبالإثارة المصنَّعة، إلى أتون الحرب الأهلية. كانت شرارة واحدة تكفي لتتفجّر الأرض بدماء أهلها.
من هنا، فإن من حق المواطن الطبيعي أن يعتبر نفسه طرفاً معنياً بكل محاولة للتصحيح والعودة إلى الأصول، سواء في ما يتصل بإعادة بناء الدولة، أو بترميم العلاقات مع سوريا بحيث تعود إلى ما يجب أن تكون عليه: قربى ولا غربة، ومصالح مشتركة تربط وتنفع، وموقف موحد من العدو، يعزز المنعة ويزيد في توفير الحماية.
[ [ [
ومع التنويه بمبادرة وليد جنبلاط إلى المراجعة ومباشرة نقد الذات والتراجع عمّا أخطأ فيه، فلا بد من بعض الكلام الصريح حول التجربة المرّة التي عاشها اللبنانيون تطاردهم هواجس الفتنة والخوف على المصير، أناء الليل وأطراف النهار.
إن أهل الطبقة السياسية عموماً، يفترضون أنهم يلخصون الدولة اللبنانية الوطيدة الأركان في أشخاصهم، بوصفهم ممثلي الطوائف والمذاهب التي ابتدع لها هذا الكيان بنظامه الفريد… وبالتالي فهم يعتبرون أو يتصرفون وكأنهم الطرف المقرّر في علاقات لبنان بمحيطه، خاصة، وسوريا أساسية فيه، أو بدول العالم جميعاً، الغرب أولاً، وبعده سائر الجهات.
ولأن أهل الطبقة السياسية ليسوا من منبت «فكري» واحد، وليست مصالحهم متطابقة بالضرورة ـ وإن هي تلاقت غالباً ـ فهم يتباينون في مواقفهم من ثوابت هذا الكيان، حتى لو تلاقت مصالحهم في أحضان نظامه الفريد…
بعضهم يذهب مع الغرب إلى حد إنكار الهوية العربية لهذا الوطن الصغير، ليس بدافع النفاق فحسب، بل ولحماية مصالحه التي يحب أن يقتنع وأن يقنع الغير بها بوصفها بين مصالح الغرب المباشرة.
وبعضهم يقول بالانتماء العربي… لكنه يفضل من الأنظمة العربية الأغنى، بغض النظر عن سياساته الممالئة لقوى الهيمنة الأجنبية على المصير العربي، والتي هي بالضرورة حليفة لإسرائيل.
وبعض ثالث يستولد نمطاً جديداً من العروبة الكيانية، بذريعة توكيد الحق بالتحرّر والاستقلال بلبنان أولاً، فينتهي به الأمر إلى الخروج على العروبة ورفع راية «الحياد» في الصراع العربي الإسرائيلي، وكأن العرب هم الذين جاؤوا من أقاصي الأرض إلى فلسطين فأخرجوا أهلها منها واحتلوها عبر سلسلة من الحروب التي ما تزال مفتوحة…
يتصل بهذا البعض ويتحدّر من صلبه بعض رابع يقول بالانتماء العربي نفاقاً لهذا النظام العربي أو ذاك، فإذا ما اضطر إلى تحديد موقف من فلسطين كقضية مقدسة، ومن نضال شعبها من أجل حقه (أو حتى بعض حقه في بعضها…) سواء داخل الأرض المحتلة أو في أقطار الشتات، رفع هذا البعض عقيرته برفض التوطين، مسامحاً الإسرائيليين بالأرض المقدسة بكنيسة المهد ودرب الآلام والمسجد الأقصى فيها… وكفى الله «المتواطئين» القتال.
وفي سوق الاستهلاك، الآن، أنماط عديدة من العروبة المستوردة: بعضها بعقال مذهّب ولسان أميركي، وبعضها الآخر من أهلها لا يستثير نخوته الأصيلة إلا إيران وقنابلها النووية تحت الصنع، وبعضها الثالث مجرد تمويه لكيانية راسخة تكاد تصير عنصرية في مواجهة العربيْن بالجوار: السوري في دولته، والفلسطيني في لجوئه إلى ديار الشتات.
[ [ [
مما يسعد المواطن في لبنان أن يرى القادة السياسيين الذين أخذتهم نزعة الثأر، أو خيبة الأمل، أو ضغط المصالح، أو إغراءات الدول، أو الحمى الطائفية بعيداً عن أهلهم، يعودون إلى دمشق مصالحين.
ومما يسعده أيضاً أن يتأكد من أن قلب سوريا كبير، وكذلك عقل قيادتها …
لكن ما يطلبه المواطن في لبنان أن تبنى العلاقة مع سوريا على قواعد ثابتة وسليمة، فيها من المصالح والمنافع ما يعزز العواطف والجهود لتحصينها من الهزات والعمليات الانتقامية.
إن التجربة المريرة التي عاشها البلدان المتكاملان بالطبيعة يجب أن تكون المرشد في كيفية بناء علاقات سليمة بين الدولتين الجارتين والمتداخلتين أرضاً ونسباً ومصالح، بحيث لا تهتز مستقبلاً بسبب من خلاف بعض الزعماء أو بعض المرجعيات التي تقفز فجأة من السياسة إلى الطائفة، مدمرة أسس التكامل.
لتفتح دمشق أبوابها وقلبها للجميع…
لكن من حق الناس أن تطلب ترسيخ العلاقة بين الدولتين السيدتين الشامختين، بما يحفظ حقهم في غد أفضل، هنا وهناك، لا يعرّضه خصام بعض السياسيين مع بعض «المدبّرين» إلى هزات وارتجاجات تذهب بأسباب حياتهم.. بل وبحياتهم جميعاً.
لتكن بداية جديدة لمصلحة الشعبين في الدولتين المتكاملتين بالطبيعة كما بالمصالح.
لتكن علاقات طبيعية، فهي أقوى بالتأكيد من أي تمييز!

Exit mobile version