طلال سلمان

عن عرب انتخابات من لبنان الى عراق مرورا جزائر وفلسطين

لأسباب مختلفة، ومتباينة أحياناً، باتت كلمة »الانتخابات« مصدراً للقلق أو الخوف أو للضحك منها بوصفها »نكتة سوداء« في مجمل الأقطار العربية.
في العالم المتقدم تعتبر الانتخابات الصيغة الطبيعية لمعالجة المشكلات السياسية والاجتماعية، إذ يتحمّل »الشعب« مسؤولية القرار في شؤون حياته، بمشاركته المباشرة في صياغتها، فلا يكون حكراً على شخص أو فئة أو طائفة.
إلا في البلاد العربية، عموماً، فإن الانتخابات تبدو، في الغالب الأعم، وكأنها المأزق وليست الحل أو الوسيلة الديموقراطية للقرار السليم.
حتى في دولة ذات نظام ديموقراطي برلماني، مثل لبنان، فقدت كلمة »الانتخابات« اعتبارها أو معناها الأصلي، فباتت تعني في حالة الاعتراض على قانونها المقاطعة التي قد تستعيد مناخ الحرب الأهلية… أما في حالة المشاركة فلا تعني غير التسليم بأن تتولى »المحادل« و»البواسط« تجسيد »الإرادة الشعبية«، بغير أن تكلف المواطن (المعني) عبء الانتقال والوقوف في الشمس أو تحت المطر للإدلاء بصوت لن يقدم ولن يؤخر في النتائج المعلنة سلفاً..
فلكل انتخابات نيابية قانونها الخاص المختلف عمّا قبله بتقسيماته الجغرافية المناسبة لأقطاب النظام: هنا محافظتان معاً في دائرة واحدة، وهناك محافظة بدائرتين، وهنالك محافظة أخرى بثلاث دوائر إلخ… المهم ضمان فوز اللائحة المعلبة بلا أي اختراق.
ثم أن مدة المجلس النيابي نفسه قابلة للمط، بحيث يخدم الغرض السياسي المطلوب منه أن يؤديه في »معركة« رئاسة الجمهورية…
أما الدستور فسهل تعديله وإن كان صعباً تفسيره (بدليل جلسة اليوم ذات الطرافة الاستثنائية)!
أما الانتخابات البلدية فمسألة فيها نظر، والقانون آخر هموم المعنيين بها، لكأنما الانتخاب والقانون (أو حتى الدستور) خطان متوازيان لا يلتقيان إلا بإرادته سبحانه!
والانتخابات، في بلاد الناس، وسيلة لتجديد الحياة السياسية، وتدارك أي خلل في النظام، وأداة لمحاسبة الرؤساء والحكومات والنواب عن مدى التزامهم بالدستور وبواجبهم حيال مجتمعهم.
أما حيث عرفت الأقطار العربية »اختراع« الانتخابات، فإن الهدف الحقيقي من اعتمادها يعني تشريع الثبات، وغالباً عن طريق الزور والتزوير، لوضع يرى الناس وجوب تغييره.
وفي العديد من العواصم العربية لا يتمالك »المواطن« نفسه إذا ما سألته عن الانتخابات، إذ يشعر بأنك إنما تذكره بالامتهان المستمر لرأيه، وتجاوزه دائماً، والاستغناء عنه وعن مشاركته في القرارات (حتى المصيرية) المتصلة بشؤون بلاده وسلامة مجتمعها.
وفي بلاد ذات تجربة سياسية عظيمة كالجزائر، كان عماد ثورتها المشاركة الشعبية الكثيفة وبالدم في معركة تحرير البلاد من الاستعمار الاستيطاني، واستعادة هويتها القومية وكرامتها الوطنية، فإن القوى العسكرية المسيطرة (على النظام) حولت الانتخابات إلى حرب أهلية مفتوحة، ما تزال تلتهم البلاد والعباد منذ أربعة عشر عاماً وحتى اليوم…
… وها هي الانتخابات الرئاسية المقررة بعد ثلاثة شهور تنذر بمواجهات جديدة، بين »صاحب السلطة الفعلية«، أي الجيش، وبين الشعب بقواه السياسية المختلفة، قد تغرق البلاد مجدداً في بحر من دماء أبنائها، والعياذ بالله… من شر الديموقراطية!
في مصر، تتم الأمور بطريقة هادئة، فتفصل القوانين على المقاس الرئاسي، وتعين »المعارضة« تعييناً بعد ضمان الأكثرية المطلقة والدائمة… للحكومة!
وفي الأردن، لكل دورة انتخابية تقسيماتها الإدارية بحيث تجيء النتائج الديموقراطية محققة للتوازن بين البدو والحضر وبين »الإسلاميين« وخصومهم من الملكيين الثابتي الولاء بحيث تظل الأكثرية المطلقة لرجال »نعم« المؤمنين بشعار »الأردن أولاً«، ولتذهب فلسطين إلى الجحيم… الإسرائيلي!
ومع أن العراق تحت الاحتلال يمثل حالة استثنائية، فإن النقاش الذي فتح كمدخل »شرعي« إلى مناقشة مستقبله السياسي كدولة، وطبيعة نظامها، يلامس علاقة العرب مع الديموقراطية في مختلف أرجاء الوطن العربي…
ذلك أن الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية لا تملك من أسباب النجاح في التجربة الديموقراطية ما يمكن أن تساعد به »الأخوة العراقيين« فترشّد حوارهم من حولها، الذي ربما رأى فيه بعضهم المدخل الطبيعي إلى مقاومة الاحتلال، وإلى التصدي للدعوات الانفصالية والتقسيمية تحت لافتة الفدرالية ذات الجذر العنصري أو المذهبي.
فالانتخابات، في منطق القائلين بها، تستهدف التعجيل في استيلاد إرادة العراقيين في حكم أنفسهم بأنفسهم، على قاعدة دستورية تستهدف بناء دولة ديموقراطية لجميع العراقيين، بغير تمييز بينهم على أساس من العرق أو الدين، وبالتالي فهي تمكّنهم من توحيد كلمتهم واستيلاد سلطتهم المنبثقة من إرداتهم، والتعجيل بجلاء الاحتلال الأميركي الذي تهافتت مبرراته لشن حربه الاستعمارية بدءاً من أسلحة الدمار الشامل وانتهاء بإقامة الديموقراطية في العراق، وزادت أغراضه المكشوفة انكشافاً فتبدى أنه إنما يريد السيطرة على هذه الأرض الغنية بخيراتها، وعلى جوارها جميعاً، والتحكّم بمستقبل شعوبها جميعاً، يستوي في ذلك العربي والإيراني والتركي.
وأكثر ما يفضح المنطق الاستعماري للإدارة الأميركية، ومن معها من المتعاونين في بغداد، هو الادعاء باستحالة إجراء إحصاء للسكان، واستحالة إجراء انتخابات في ظروف أمنية صعبة كان بين أسباب صعوبتها سيطرة الاحتلال بعكسره على العراق، وتحريضه لبعض العراقيين ضد بعضهم الآخر، وتخويف الأقليات من الأكثرية العربية، ومحاولة قسمة الأكثرية وجعلها تواجه بعضها البعض على قاعدة مذهبية.
ويبدو الاحتلال الأميركي مطمئناً إلى أن أكثرية الحكام العرب ستتواطأ معه ضمناً ضد مطالبة العراقيين بالانتخابات… فهم لا يريدون للعدوى أن تصيبهم في »رعاياهم« وهم يعملون جاهدين لإبعاد هذه الكأس عن شفاههم، أو لإرجائها ما أمكن.
وحتى ذلك الحين تستمر الشركات الأميركية والسماسرة المتعاونون معها في نهب خيرات أرض الرافدين، مع حفظ حصة محترمة من الرِشى لضباط جيش الاحتلال، حيث يتداول العاملون الآن معهم أرقاماً عن العمولات المحترمة التي يتقاضونها بوصفهم »لصوص بغداد« الكبار، لتسهيل مهمة »اللصوص الصغار«.
* * *
ويبقى في المنطقة العربية نموذجان للديموقراطية، حسب التفسير الغربي، والأميركي خصوصاً: أولهما في فلسطين المحتلة، والثاني في الكيان الإسرائيلي…
فأما في فلسطين فإن الديموقراطية الأميركية قد »أسقطت« من شرعيتها الرئيس الفلسطيني المنتخب بإشراف مباشر من إدارتها، وامتنعت عن التعامل معه، وحرمت على الدول »الديموقراطية« الأخرى الغربية والعربية على حد سواء، الاتصال به، وتركت للحصار العسكري الإسرائيلي أن يميته وهو في محبسه في رام الله…
وفي الوقت نفسه فإن »الديموقراطية الإسرائيلية« تظل نموذجاً يحتذى، بالنسبة للإدارة الأميركية، حتى وهي تُغرق شعب فلسطين في بحر من دماء أبنائه، وتدمر بيوته ومرافقه الصغيرة، وتقتلع أشجار بياراته، وتصادر أراضيه، ثم وهي تبني جدار الفصل العنصري لتفرض الموت البطيء أو التهجير على الفلسطينيين جميعاً فلا يصدر عن شارون ما يكشف التزامه العميق بالديموقراطية وحقوق الإنسان!
لكأنما الإسرائيلي يقترع في انتخاباته على أرض الفلسطينيين وليس على ثيابهم فقط، كما مع السيد المسيح…
والخيار بائس بين الديموقراطيات المعروفة أو المفروضة على عرب القرن الحادي والعشرين!

Exit mobile version