طلال سلمان

عن طبقة سياسية وحكومتها كونية

الحمد لله على أن الجيش ما زال قادراً على ممارسة دوره الوطني في التصدي، بإمكاناته المحدودة، للعدو الإسرائيلي بقدراته الخطيرة، بغير انتظار لمعجزة التوافق التي ستنجب معجزة تشكيل الحكومة الجديدة التي تتخذ ـ ساعة بعد ساعة ـ صورة الأزمة الكونية التي قد يحتاج حلها إلى قمة بين «الستة الكبار» أو ربما العشرين من قادة الدول الأقوى والأغنى ممن يقررون مصائر الشعوب والدول في العالم كله!
والحمد لله أن قيادة «اليونيفيل» تحرص على القيام بواجبها، ميدانياً، وسط التعقيدات السياسية الدولية التي حصرت مهمتها بالمراقبة والإبلاغ، ومساعدة المواطنين في الجنوب بما تيسر لها من الإمكانات المادية، مما وثق علاقتهم بها وجعلها مصدراً للاطمئنان، وسط بحر التهديدات والإجراءات الميدانية الإسرائيلية اليومية التي تخرق القرار الشهير 1701 على مدار الساعة.
فهذا القرار المنقوص لم يحم لبنان سماءً وبحراً وأرضاً، ولا هو وفر الطمأنينة الفعلية لمواطنيه الذين يرون طائرات العدو، بالعين المجردة، تخرق أجواءهم يومياً، وتقوم بغارات وهمية، في حين تتولى الطائرات من دون طيارين تصوير غرف نومهم وملاجئهم وطرقاتهم وأسباب رزقهم أناء الليل وأطراف النهار، من دون رادع يردع.
مع ذلك فإن لبنان، شعباً ومقاومة، هو المطارَد دائماً بتهمة الإرهاب، أما إسرائيل فمعتدى عليها. وهي بحاجة إلى ضمانات وإلى من يحميها من المفاعل النووي المقام بين حولا وميس الجبل، أو بين الخيام ومرجعيون… فإذا التمع ضوء في المنطقة الحدودية كان ذلك خرقاً للقرار الذي استُولد ناقصاً بقصد مقصود، والذي جعله العجز العربي وتهالك المنادين بالسيادة والحرية والاستقلال تعويذة مقدسة، نرعاها بأهداب العيون في حين أن العدو الإسرائيلي يجعله ممسحة لاعتداءاته اليومية بطيرانه على امتداد الأفق اللبناني..
أما الطبقة السياسية في لبنان التي يتبدى عجزها فاضحاً عن إدارة شؤون البلاد والعباد ففي شغل شاغل عن «التفاصيل» كمثل الاختراقات الإسرائيلية اليومية لأجواء البلاد، وعن التهديدات الدائمة لمواطنيه، وعن تدخلها الفاضح في شؤونه الداخلية والتي بلغ حد تقديم «الوشايات» ـ بالواسطة غالباً، وبشكل غير مباشر ولكن منتظم في بعض الأحيان ـ ضد مواطنين لبنانيين يقدمون جهدهم وعرق الجباه لبعض الدول العربية الشقيقة، أو في بعض الدول الأفريقية الصديقة.
إن هذه الطبقة السياسية لم تنتبه، ولعلها لا تريد أن تنتبه إلى أن صورة الكون قد تبدلت أو تكاد، فطويت عداوات تاريخية (تركيا ـ أرمينيا) وأسقطت حدود دولية كانت متفجرة ذات يوم (سوريا ـ تركيا)، وتفجرت حروب أهلية تهدد بانفراط دول كانت كبيرة (ونووية)، وأعطيت جائزة نوبل للسلام لرئيس أميركي أسمر لما يكمل سنته الأولى في الحكم ومع ذلك فقد تعهد بحرب المئة عام ضد أفغانستان مضحياً بسلامة باكستان وما جاورها من دول (إسلامية) هشة التكوين، وانفتحت الطريق عريضة بين دمشق والرياض، وصدر تقرير غولدستون الذي يتهم إسرائيل بحرب ضد الإنسانية في غزة الشعب الفلسطيني إلخ..
لم يتوقف العالم ولم يحبس أنفاسه ترقباً لولادة هذه الحكومة التي لن تبني مفاعلاً نووياً، ولن تنتج صواريخ عابرة للقارات، ولن تستطيع إطفاء الدين العام الذي تجاوز الخمسين ملياراً، ولن تبني دولة في هذا الكيان الذي نظامه أقوى من إرادة شعبه، والذي يديره «الخارج» في «البلاد البلا داخل».
كل ما حصل أن الطبقة السياسية عبّرت عن المزيد من الاحتقار لرعاياها الذين انتظموا قبل شهور أربعة في طوابير كي «ينتخبوا» من لم يكونوا بحاجة إلى أصواتهم كي يصادروا «مركز القرار» الذي كان في أيديهم أصلاً، وها ان تلك الانتخابات التي جرت على «الصور» والشعارات «الحربية» تطوي ادعاءها الانتساب إلى الديموقراطية وتجرجر أذيالها في حومة السيادة والحرية والاستقلال، مؤكدة عقمها بعجزها عن إنجاز حكومة… استيفاء للشكل ليس إلا!
على مدار الساعة يسمع الرعايا اللبنانيون تصريحات تعبّر عن احتقار هذه الطبقة السياسية لعقولهم وتمتهن كراماتهم الشخصية.
في تصريح واحد قد تتردد أسماء دول كبرى، عربية وإقليمية ودولية، وبلهجة واثقة توحي أن أياً من المسؤولين الكبار الكبار لا ينام الليل لشدة انشغاله بابتداع حل للحكومة العتيدة التي تكاثرت ألقابها بقدر ما توالدت أسباب تعسر ولادتها!
صرت تسمع أسماء الكبار مجردة من ألقابها: أوباما، ساركوزي، بشار، عبد الله، مبارك، نجاد، مرفقة بحكايات عما قاله كل منهم للآخر، أو في الآخر، وكأن الأمر يتعلق بمباراة في كرة القدم، أو بحفلة مصارعة رومانية… فأهل الطبقة السياسية عندنا رفعوا الكلفة، من زمان، مع القيادات المؤثرة في الكون، أو في المنطقة.
ومع أنهم يتحاشون الحديث المباشر عن إسرائيل إلا أن «نصائح» بعضهم للمقاومة ودورها السياسي واحتمال مشاركتها في الحكومة تعكس ـ فعلياً ـ الموقف الإسرائيلي مموهاً بتصريحات بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية الساهرة على أمن المنطقة ومنع المغامرات العسكرية فيها، من الجانب العربي تحديداً..
ولأن الطبقة السياسية منقسمة على ذاتها، في الظاهر، يمكن لهواة جمع التناقضات أن يسمعوا تصريحات أركانها مرتين: ناضحة بالتفاؤل، مرة، ودافعة إلى اليأس والتحريض على المواجهة، مرة أخرى.
ثم إن أركان هذه الطبقة لا يجدون حرجاً في تبادل الأدوار: فمن كان يبشر بولادة الحكومة خلال ساعات، يمكن أن يبلغك في اليوم التالي أن الأزمة أخطر مما نتصور، وتستدعي توافقاً دولياً ـ إقليمياً ـ عربياً!!
والحمد لله، من قبل ومن بعد، على أن الفرد اللبناني كائن خرافي، تعوّد أن يعيش بلا دولة، أو في مواجهة الدولة التي لم يتعوّد أن تكون له، يعتبر الكون وطنه، وينطلق إليه بحقيبة في يده لينازل حظه، مكتفياً بين الحين والآخر بمهاتفة أهله مطمئناً، قبل أن ينهي مكالمته بالقول: سأراكم قريباً، فور تشكيل الحكومة، إن شاء الله!! فيدركون أن غيابه سوف يطول كما سوف يطول انتظارهم الذي لا معنى له غير الإذلال!
مع ذلك فثمة من لم يتعب بعد من تحديد المواعيد لإخراج الصورة المرتجاة للحكومة العجائبية التي ستبهر العالم!
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!

Exit mobile version