طلال سلمان

عن »صدمة« مقاومة و»ذهول« احتلال

قد يكون من المبكر الاحتفال بفشل الخطة الجهنمية لاستنبات »الحرية للعراق« بواسطة صواريخ كروز و»أم القنابل« وطائرات ب 52 العملاقة، ولكن من الواجب توجيه التهنئة الى صنّاع الشعارات وخبراء العلاقات العامة والتسويق والترويج في واشنطن ولندن الذين أعطوا هذه الخطة تسمية »الصدمة والذهول«. لكأنهم كانوا يقرأون ما سوف يكون!
فمنذ خمسة أيام تحاول قوات الغزو الأميركي البريطاني أن تتقدم داخل لحم العراق، انطلاقاً من جنوبه، (أم قصر البصرة الزبير الناصرية النجف)، فتلقى مقاومة باسلة لم تتوقعها ولم تتحسّب لها، بل لعلها قد توهمت أن الجماهير ستخرج مرحبة بهؤلاء »المحرِّرين« الذين جاءت بهم النخوة والحمية والمشاعر الإنسانية من أقصى الأرض، مثقلين بكل أنواع الموت »الرفيق« و»السريع« و»الرحيم« و»البلا وجع«..
من الطبيعي، إذاً، أن تسقط القيادات العليا (السياسية) والقيادات الميدانية (العسكرية) في »ذهول« نتيجة »الصدمة« التي جاءتها من حيث لا تتوقع!
أما أسباب »الصدمة« فمتعددة، لكنها جميعاً تبرر »الذهول« ومنها:
1 ان القيادة السياسية العبقرية ممثلة بجورج د. بوش وطوني بلير، ومن معهما من »الخبراء و»الدارسين« و»العلماء«، قد افترضت حين اختارت »العراق« هدفاً لحرب الهيمنة، أن الشعب العراقي »يكره حاكمه أكثر مما يحب وطنه«.. ولعلهم في البيت الأبيض قد اتخذوا من نماذج »المعارضين« الذين اشتروهم أو جاءوهم متبرعين، معياراً لشعب العراق، فكان طبيعياً أن تحدث »الصدمة« عند الارتطام بواقع المقاومة الباسلة، وأن يكون »الذهول«!
2 إن هذه القيادة العبقرية قد استندت إلى مقولة رائجة مفادها أن لأهل الجنوب ثأراً على النظام، نتيجة فتكه بانتفاضتهم في مثل هذه الأيام من العام 1991.. وعلى هذا بُنيت الخطة العسكرية على افتراض »سياسي« بأن الملايين من العراقيين، وفي مختلف مناطق أرض الرافدين، وفي الجنوب تحديداً، سيخرجون لاستقبال قوات الغزو بالورود، ثأراً من حاكمهم الظالم.
لقد صدّقت تلك القيادة الادعاء بأن »الطائفية« أو »الجهوية« قد تغلب على »الوطنية« أو على »القومية« ومعها الدين فتأخذ أهل الجنوب الى الخطأ التاريخي، … وهو خطأ لم يقع فيه هؤلاء العراقيون العرب الأقحاح لا مع الغزو البريطاني سنة 1920، ولا خلال الحرب الظالمة التي شنها »النظام« ضد الثورة الإسلامية في إيران (الشيعية) على امتداد ثماني سنوات (بين 1980 و1988)، ولا حتى حين أخطأ النظام في الداخل والخارج!
وسقوط هذا الوهم أيضاً يمكن أن يُحدث لقيادة الغزو الأميركي البريطاني »صدمة«، ويمكن أن يتسبب في »ذهول«، من المرجح أن تطول مدته وأن يشتد ضغطه مع تزايد أعداد القتلى والأسرى من الجنود المستقدمين لاستنبات »الحرية للعراق«.
3 ومع القيادة الأميركية البريطانية لحرب الهيمنة، فقد أصيب ب»الصدمة والذهول« أيضاً معظم »أصدقائها« و»المتعاونين« من حكام الهزيمة العربية، الذين فتحوا أرض بلادهم وأجواءها وبحورها لجيوش الغزو، فضلاً عن فتح خزائنهم وقلوبهم… وهكذا فإن شعوبهم تسمع منهم ما يذهلها، وترى من تصرفاتهم ما يستفزها بأكثر ما تستفزها الضربات العسكرية.
كان هؤلاء بمجملهم يفترضون أن العراق سيسقط بالضربة الجوية القاضية خلال ساعات، ثم يكون احتلال مساحة »أرض السواد« نزهة، مجرد نزهة لهذه القوات المزوّدة بأفظع ما أنتجه العقل البشري من أدوات التدمير الشامل والإبادة الكلية لكل من وما هو حي… بل أن بعضهم أعلن صراحة أنه كان قد تلقى »وعوداً« رسمية ومن أعلى المستويات بحرب سريعة، تنتهي قبل أن يفيق الناس (في الأقطار العربية وفي العالم) من »ذهول« ما بعد »صدمة« سقوط العراق..
هنا لا بد من استدراك مفاده: أن حكام الهزيمة قد أثبتوا، وبالدليل الحسي، أن التحاقهم بقوات الغزو لا يعبّر عن موقف من النظام العراقي وحده، بل من العروبة والعرب في كل أرضهم. فمن يفرّط بالعراق لن يحمي فلسطين، ومن تهون عليه بغداد لن تكون عزيزة عليه القاهرة أو دمشق أو بيروت أو حتى الكويت والدوحة والرياض (التي ليست على السمع)، فضلاً عن طرابلس وتونس والجزائر والرباط وصولاً إلى نواكشوط في غرب الغرب وصنعاء في جنوب الجنوب.
وبمعزل عن طبيعة النظام القائم في بغداد، فإن المواطنين العرب قد جمّدوا اعتراضاتهم الكثيرة عليه، ونزلوا إلى الشوارع (حيث استطاعوا) يعلنون موقفهم قاطعاً في وضوحه ضد حرب الهيمنة الأميركية، وضد المتواطئين مع قوات الغزو…
أما حكام الهزيمة فقد اتخذوا مرة أخرى الموقف الذي ترفضه شعوبهم وتدينه، مع أن لا مشكلة جدية لأي منهم (حتى الكويت) مع العراق، في هذه اللحظة، يمكن أن تدفعهم إلى الترحيب بتدميره وإذلال شعبه، بالقتل والتشريد والتجويع، ثم تمزيق وحدته وبعثرته طوائف ومذاهب وقوميات متناحرة يمكن أن تقتتل إلى يوم الدين، إذا فعلت »الحرية للعراق« فعلها تحت قيادة جنرال الاحتلال الأميركي..

وعلى سبيل المثال لا الحصر: فما مشكلة النظام الأردني مع العراق، وهو الذي يعيش منذ ثلاثة عقود، وأكثر، على مساعدات النظام العراقي المباشرة (النفط والتجارة) والنقدية والعينية (لأصحاب السمو الملكي وأصحاب الدولة والمعالي وللكتبة أيضاً)… بل وربما صح القول إن هذا النظام العراقي شكّل في أكثر من مناسبة، حماية جدية للنظام الهاشمي في عمان، (وبالطبع ليس في وجه إسرائيل..)، وكانت السفارة العراقية أحد مراكز الحكم أو التوجيه، فماذا عدا مما بدا حتى يكافأ الدبلوماسيون العراقيون بالطرد، وإن كانت واشنطن هي التي تطلب ما لا يقرّه قانون ولا يقبله عقل ولا تسمح به شريعة؟!
إن حكام الهزيمة يتنافسون على إحراز قصب السبق في الخروج من العروبة وعليها، وكأن واشنطن ستكافئهم غدا، بينما إدارتها لا تفتأ تعبر عن احتقارها لهم، وتتصرف ببلادهم من غير استشارتهم، وتهينهم علنا بمناسبة وبلا مناسبة، وتفضحهم أمام شعوبهم… ولا يستبعد أن تخلعهم غدا، استرضاء لجمهورهم الغاضب.
للمناسبة: إن حكام الهزيمة هؤلاء يكادون يحصرون »وظيفتهم« وربما مبرر وجودهم بمساعدة الأميركيين على العراق، فلماذا الحرص على وجودهم وعلى دورهم بعد تبديل الوضع في العراق، خصوصا أنهم مجرد أتباع وليسوا بأي حال شركاء أو حتى معاونين؟!
يتصل بمواقف هؤلاء الحكام الدور الذي يلعبه إعلامهم وموظفو إعلامهم الملتحقين بقوات الغزو الأميركي البريطاني: إنه دور يداني الخيانة العظمى، ولا يمكن تبريره بموجبات المهنة، خصوصا أنهم يستخدمون في حالات عديدة التعابير نفسها والتوصيف نفسه لما يدور على الجبهات بين »أهلهم« العراقيين وبين الغزاة الأجانب.
إن بعضهم يقوم بدور اللسان العربي للاحتلال الأميركي البريطاني.
ومن باب الحرص على هؤلاء أن ينبهوا إلى أن الحساب سيكون عسيرا، غدا، وبعدما تنتهي هذه الحرب على العراق، وكائنة ما كانت نهايتها… فهزيمة العراق هزيمة للعرب والمسلمين، بل ولكل شعوب العالم التي خرجت إلى الشوارع مرارا، قبل أن يطلق بوش بلير الرصاصة الأولى، وما تزال تخرج معلنة غضبها معبرة عن رفضها لهذا العدوان المفضوح والمكشوف والذي لا يمكن لأي عاقل أن يقبله فكيف بتبريره!

يمكن أن نضيف مصدرا آخر »للصدمة« و»الذهول« هو ذاك المتمثل في موقف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، الذي أطلق ما يمكن اعتباره رصاصة الرحمة على الشرعية الدولية، ممثلة بالمؤسسة التي تشرفه بموقعه الممتاز، و»بهيئتها التنفيذية« أو »حكومتها« مجلس الأمن الدولي.
لقد أقدم أنان على سحب كل رموز الأمم المتحدة من العراق، وخرج على كافة القرارات التي اتخذها مجلس الأمن الدولي بخصوص العراق، وتصرف بالفعل وكأنه مجرد موظف لدى الإدارة الأميركية تأمره فيصدع بأمرها وينفذ ما تطلبه منه بغير نقاش.
وإذا كان سحب المفتشين قد تم تبريره بالحرص على سلامتهم، بعد الإنذار الذي تلقاه أنان من الإدارة الأميركية بأنها في طريقها إلى غزو العراق، فما هو التبرير الذي يمكن أن يقدمه الأمين العام للأمم المتحدة في تعطيل برنامج »الغذاء مقابل النفط«؟!
إن الأمر هنا يتصل بأسباب حياة العراقيين، وهم يدفعون ثمن هذا »الغذاء« من أموالهم الشرعية، أي من عائد نفطهم الذي تتصرف به لجان وهيئات وبيوت سمسرة دولية فتنهب قسما كبيرا منه (كرواتب وخدمات!!) مقابل أن توفر لشعب العراق الحد الأدنى من الغذاء الذي يقيم الأود..
وبمعزل عن الشائعات التي كانت تناولت، ذات يوم، كوفي أنان في ذمته، وأشارت إلى »دور« لنجله في صرف »التعويضات على المتضررين« من »عاصفة الصحراء« الأميركية، والتي طالت كل »أصدقاء« واشنطن (وإسرائيل بالذات)، فإن هذا القرار الهمايوني للأمين العام للأمم المتحدة يكاد يكون »إسهاما مباشرا« في الحرب الأميركية على العراق.
إن الإدارة الأميركية البريطانية تمنن العراقيين، الآن، بأن الاحتلال سيوفر لهم الغذاء، فضلا عن الديموقراطية والحرية والكرامة والسؤدد والغد الأفضل!
وماذا يمكن أن تطلب قوات الاحتلال كمساعدة ميدانية أكثر من أن يسهم قرار جائر وغير شرعي وغير مبرر للأمين العام للأمم المتحدة في تجويع خمسة وعشرين مليون عراقي، بينما الطائرات والغواصات والمدمرات تلهب جنبات العراق بصواريخها وقذائفها الحارقة للمدن والقرى بناسها ومرافقها ومنشآتها العامة والخاصة؟!
لقد أعلن جورج بوش، بصراحة، أن الأمم المتحدة، ومجلس الأمن فيها، ليست المصدر الوحيد للشرعية الدولية، أو أنها ليست الشرعية الوحيدة، وأن ثمة شرعية بديلة تتمثل في »شرعية المتحالفين« من أجل إقامة النظام الدولي الجديد.
و»شرعية المتحالفين« هذه هي التي ستقرر، أول ما تقرر، مصير العالم، بغربه وشرقه، بما فيه أوروبا القديمة وروسيا وآسيا وأفريقيا جميعا وعلى وجه التحديد: العرب والمسلمين، حيثما وجدوا!
والأمل أن تصيب »صدمة« صمود العراق الإدارة الأميركية »بذهول« طويل الأجل، تخرج معه الشعوب العربية على حكام الهزيمة لتصنع بإرادتها مستقبلها فوق أرضها.

Exit mobile version