طلال سلمان

عن ديموقراطية كضمانة لحماية موقف وطني

لا بد من توضيح رسمي ورصين للتصريحات المنسوبة إلى السفير اللبناني في واشنطن يحسم الجدل المؤذي الذي أثارته والذي صبّ على الفور في بحيرة الخلافات السياسية المحلية واكتسى تلاوينها مبتعدا عن أساس الموضوع في اتجاه الأغراض والمصالح والنكايات والمكايدات السابقة على تلك التصريحات والباقية بعدها.
ليس مسموحاً للسفير الجديد في واشنطن فريد عبود أن يخطئ اجتهادا أو تهاونا أو استسهالاً لشأن الإعلام، وكأنه يتحدث في بيروت مثلاً، وفي جلسة مغلقة مع المتفقين على الأساسيات وإن تباينت آراؤهم في التفاصيل أو الأساليب،
ونفترض أن السفير في واشنطن يتمتع بقدر من الكفاءة المهنية وبقدر أعلى من الخبرة العملية بالإسرائيليين ومناوراتهم وكفاءتهم العالية في استخدام الإعلام العالمي، مستندين إلى نفوذهم »التاريخي« وغير المحدود فيه.
على أن الأمر يتجاوز السفير عبود وأقواله إلى أساس الموضوع، أي إلى »إدارة الحكم للصراع«، في هذه اللحظة الشديدة الحساسية، والكل يقف عند عتبة الاحتمال بإحياء العملية السلمية، واستئناف المفاوضات مع العدو الإسرائيلي (من حيث توقفت)، ودائماً تحت الرعاية الأميركية مطعّمة بدور روسي ضروري، ولو محدود، ومشاركة أوروبية حيوية، ولو رمزية.
لقد أحدثت بضع كلمات نسبت إلى سفير لبناني هزة في بيروت ليس فقط بسبب عدم الدقة فيها، بل أولاً وأساساً لأن الخلافات المحلية سابقة عليها ومستمرة بعدها، وأطرافها مستنفرون وجاهزون لتلقف أي تمايز لتوظيفه فورا في ما يتعدى القول والقائل وخطورة الكلام أو عجزه عن التأثير في الموقف الوطني العام.
والخلافات حول الشؤون الداخلية، حكومة معارضة، موازنة ضرائب، »مصادر وزارية« و»حملات إعلامية ممولة«، الحصانة النيابية دور القضاء في المحاسبات السياسية، مدى تدخل »العسكر« في السياسة قانون الانتخابات وتقسيمات الدوائر، قد تكون دليل حيوية وعافية، حتى إذا ما كانت تشير أو رأى فيها البعض دليلاً على وجود تعارض في الاتجاهات بين الذين في الحكم ومن هم خارجه.
على أن هذه الخلافات لا يجوز أن تسحب نفسها على القضية الوطنية، ونفترض أن »أصحاب العلاقة« يدركون هذه الحقيقة وإن ناوروا مستخدمين »هفوة« هنا أو »تسرعاً« هناك، أو موقفا ملتبسا وقابلاً للتأويل صدر عن »مرجع رسمي، مادة للاستغلال، كما حدث غير مرة.
ونفترض أن لا خلاف جديا في أو من حول القضية الوطنية.
ونحب أن نفترض أيضاً أن لا أحد يمكن أن يعتبر الديموقراطية عنصر تأثير سلبيا على القضية الوطنية.
على العكس تماما، فإن أهم الضمانات الوطنية (والقومية) لموقف لبنان السياسي، في هذه المرحلة الفاصلة، هي: الديموقراطية.
وواهم أو منافق للسلطان أو دجال سياسي ذلك الذي يزعم أن الديموقراطية مسرح للفوضى أو العبث أو منبر لإظهار الانقسام حول القضية الوطنية، أي تحرير الأرض اللبنانية المحتلة بغير تنازلات قد تذهب أبعد مما يجوز على شكل اتفاق الإذعان في 17 أيار 1983، أو ترتيبات أمنية وما شاكل من الاشتراطات الإسرائيلية التعجيزية.
لم تعد مسألة وحدة المسارين اللبناني والسوري موضع خلاف أو حتى نقاش… فلقد سلَّم بها الجميع محليا وعربيا، ودوليا، وأساسا وبالذات الولايات المتحدة الأميركية، وإسرائيل ضمنا وعلنا.
وقد توصل اللبنانيون، على مختلف اتجاهاتهم وتلاوينهم الطائفية والسياسية الى التسليم بهذا المعطى السياسي واعتماده كبديهية بغير قسر أو فرض أو إملاء، بل كحاجة موضوعية أو كضرورة لا غنى عنها لتقوية وتعزيز موقعهم التفاوضي، في هذه الظروف القاسية التي تواجههم.
أكثر من ذلك: فإن الديموقراطية، أو فلنقل »الهامش الديموقراطي« الذي تتمتع أو تتميز به الحياة السياسية في لبنان، كانت ولا تزال إحدى أهم الضمانات القوية لاستمرار المقاومة الباسلة وتعاظم تأثيرها بحيث أعطت لبنان موقعا ممتازا في ميدان التفاوض من أجل تحرير أرضه.
لقد أعطى المجاهدون في صفوف المقاومة، التي اعترف بها العالم كحركة تحرير وطني، دماءهم رخيصة من أجل الحرية، حرية الإنسان والأرض،
وشكلت الديموقراطية، باستمرار، حاضنة للمقاومة، فلا أحد يذهب الى الشهادة بالقسر أو بالفرض، بل يقاتل بقوة إيمانه بحقه في أرضه، وبحياة كريمة فوقها.
وإذا ما غُيّبت الديموقراطية أو قُمعت أو لُجمت بذريعة كمثل »لا صوت يعلو على صوت المعركة« يكون ذلك إضعافاً خطراً بل مدمراً لأعظم أرصدة لبنان في صراعه (القومي بالضرورة) مع العدو الإسرائيلي.
يبقى أن نعيد التأكيد على بعض الحقائق الأساسية المتصلة بموقف العدو، عشية »المفاوضات« العتيدة، إذا ما نُصبت طاولتها فعلاً خلال الأسابيع القليلة المقبلة (كما يبشرون) وإذا ما اتخذت سياقها (المأمول) لتنتهي بالخاتمة السعيدة التي وعد بها رئيس الحكومة الاسرائيلية الجديد ايهود باراك »حليفه« الرئيس الأميركي بيل كلينتون في موعد يتناسب مع »معركته الرئاسية« بشخص نائبه آل غور، أي في تشرين الثاني 2000«.
} أولى تلك الحقائق ان من يعرفون باراك يصفونه بالرجل الزئبقي.
} الثانية ان وزير خارجيته ديفيد ليفي مشهور بلقب »الكذاب«.
} الحقيقة الثالثة ان الادارة الأميركية أقل تأثيرا على باراك مما يتخيل أو يقدّر أو يتوهم الكثيرون من العرب، الذين افترضوا (وبعضهم ما زال يفترض) ان »أعظم جنرالات إسرائيل« إنما هو »موظف صغير« يأمر بأمر »قائده« كلينتون.
} الحقيقة الرابعة والأخيرة ان كل وعود باراك بالانسحاب من لبنان خلال سنة، ثم وعوده الأخرى الخاصة بالتفاوض مع سوريا، ناهيك »بتعهداته« للسلطة الفلسطينية قد جرى نقضها… فقال قبل الانتخابات غير ما قاله خلالها، وقال بعد انتخابه غير ما كان يقوله وهو مرشح…
يكفي أن نقارن بين ما قاله عشية وصوله إلى واشنطن، ثم وهو فيها، ثم ما سيقوله بعد الزيارة، لنتثبت من أن تصريحاته لا تعبّر بالضرورة عن موقفه الفعلي، أو أقله النهائي، خصوصا وأن ذريعته الشكلية جاهزة: حكومته مليئة بالتناقضات، وهو لا يمكن أن يتخذ موقفا لا يرضي الجميع!
ومثل هذا الموقف، يقع بالتأكيد، خارج الحد الأدنى من الأدنى من المطالب العربية.
فالديموقراطية المغلفة للعنصرية والتطرف في إسرائيل قد تستخدم ذريعة لتبرير دوام الاحتلال، ولو شكلاً،
أما الديمقراطية في لبنان فهي مرة أخرى إحدى أهم الضمانات للموقف الوطني في هذا الصراع القومي ضد العدو الإسرائيلي.
هل ضروري الإشارة الى قلة الأسلحة التي نملكها، كتبرير إضافي لأداء واجب قومي يتمثل في ضرورة حماية المقاومة… بالديموقراطية؟
الديموقراطية، هنا، أحد أهم أسلحة التحرير.
طلال سلمان

Exit mobile version