طلال سلمان

عن ديموقراطية طوائف هوية

لم تعد صدور اللبنانيين تتسع لمزيد من الأوسمة!
.. ويكاد العالم، بدوله المختلفة، يغرقنا بمدائحه التي تحيي في هذا الشعب، المنقسم على ذاته إلى حد القطيعة بين «مكوّناته»، إيمانه العميق بديموقراطية فريدة في بابها، ليس لها قبل ولن يكون لها بعد!
لقد عبّر اللبنانيون الذين يعيشون، غالباً، على الحافة بين حرب أهلية وأخرى، عن إيمانهم العميق بالديموقراطية الطوائفية إلى حد أنهم أنجزوا انتخابات مثالية (بشهادة مراقبيها الأمميين الكثر) بقانون هو الأكثر تحقيراً لكرامة الإنسان وعبر عملية بيع وشراء للأصوات، ـ في الداخل والخارج ـ ناهزت كلفتها الإجمالية المليار دولار، في التقديرات المتداولة بعد انجلاء غبار الحرب بين داحس الأكثرية وغبراء الأقلية!
وبينما كان أصحاب الرأي والرؤية في لبنان، من سياسيين ومفكرين وكتّاب، ينتقدون ويهاجمون بل ويشهِّرون بانتخابات طوائفية تجري وفق قانون الستين اللاغي لحقوق الإنسان ـ ومن ضمنها الديموقراطية ـ فإن كتّاب الملوك والرؤساء والزعماء والأمراء كانوا يكيلون المديح لرقي اللبنانيين وتشبّعهم بمناخ الحرية!
تطوّع هؤلاء الكتّاب المبجّلون الذين لم تعرف أوطانهم غالباً صناديق الاقتراع، ولا تمتّع أهلهم فيها بأن يختاروا أو يساهموا في اختيار المؤذن، مثلاً، أو المدرّس أو الحارس البلدي، لأن يعطوا دروساً في دلالات الديموقراطية اللبنانية ومدى تأثيرها على الاستراتيجيات الدولية الموضوعة لمستقبل هذه المنطقة ذات الخطورة الاستثنائية!
ولقد شارك الإسرائيليون، قادة حروب وزعماء أحزاب التطرف ومحللين استراتيجيين، في تثمين «الانتصار الديموقراطي» في لبنان، وقرأوا فيه على الفور هزيمة لروح المقاومة وحزبها، واستطراداً لإيران وسوريا وسائر المنضوين في معسكر الشر!
بالمقابل فإن الإدارة الأميركية التي أظهرت اهتماماً استثنائياً بالانتخابات في هذا الوطن الصغير تمثل في زيارتين مباغتتين لأعلى مسؤولين فيها بعد الرئيس هما وزيرة الخارجية بداية، وبعدها بأيام نائب الرئيس، فضلاً عن المتابعة على مدار الساعة من طرف «المندوب السامي» جيفري فيلتمان، خرجت عن وقارها وهي تتلقى النتائج فطفقت تمتدح اللبنانيين بما ليس فيهم من صفات كالإيمان الراسخ بالديموقراطية وثبات انتمائهم إلى «العالم الحر» وقيمه، عبر انتصارهم بإبقاء الأكثرية أكثرية والتخلص من الشبح المقلق المتمثل في انتصار الأقلية… ديموقراطياً!
ولقد حاولت الإدارة الأميركية أن توحي بأنها وضعت سوريا أمام خيار «الغياب» عن هذه المعركة الديموقراطية فيه كشرط لبناء علاقة جديدة معها، ولكي تكون المبارزة بينها وبين إيران مباشرة وجهاً لوجه.
لكأنما كانت القاعدة في التصرف الأميركي: إربح في بيروت تهيّئ للربح في طهران، إن لم يكن غداً فبعد غد!
وخلافاً للتصرف الأميركي الحذر إزاء مجريات الأحداث التي أعقبت الانتخابات الرئاسية في إيران، بكل ما أثارته من اعتراضات، فإن القادة الإسرائيليين تباروا في إظهار «التعاطف مع الشعب الإيراني»، بلسان بنيامين نتنياهو، ثم ذهبوا إلى الأبعد مع نداء شيمون بيريز فـ«دعوا الشبان من الشعب يرفعون صوت الحرية… ولسنا نعرف من سيختفي أولاً اليورانيوم المخصب أم حكومتهم الحقيرة»!!
[ [ [
على أن من نعم هذه الانتخابات بقانون الستين أن اللبنانيين قد حظوا بجائزة استثنائية، إذ أقر حصن الكيانية الحصين بالهوية العربية للبنان، وهذا مكسب تاريخي برغم بداهته، تعذر الحصول عليه ـ سياسياً ـ إلا عبر حروب أهلية متكررة تسببت في تدمير هذا الوطن الصغير أكثر من مرة.
واللافت في هذا الإنجاز أنه يحصل تلبية لنداء أو استجابة لطلب من ذلك الفريق العربي الرسمي الذي طالما اعتبر «العروبة» رجساً من عمل الشيطان، وقاتلها حيثما رفع المؤمنون بها راياتها… وفي لبنان على وجه الخصوص!
القاعدة بسيطة: ضع الإسلام في وجه العروبة في لبنان تنتصر «الأكثرية» بالديموقراطية الطوائفية، أما في إيران الثورة الإسلامية فعليك أن تضع الإسلام في وجه الديموقراطية فينتصر الغرب مستفيداً من «انشقاق» بعض أهل النظام الإسلامي من حول انتخاباته الرئاسية!
«الديموقراطية» في بلادنا حمّالة أوجه، ويمكن استخدامها بلسان ملكي أو رئاسي أو أميري أو بأقلام الناطقين باسم هؤلاء، فتكون في خدمة «العروبة» مرة، وفي خدمة «الإسلام» مرة، وفي خدمة أميركا دائماً ومعها إسرائيل التي يراها الغرب واحة الديموقراطية في هذا الشرق البائس المحرومة شعوبه من أن يكون لها رأي في ما يتصل بحياتها أو بمستقبل أجيالها الآتية. من هنا فإن قادة الحروب الإسرائيلية المتكررة على العرب عموماً، وعلى الفلسطينيين خصوصاً، أبطال المجازر الجماعية في فلسطين كما في لبنان، هم أفصح من يحاضر في العرب (والمسلمين) عن الديموقراطية.
وها نحن نشهد أنواعاً شتى من الديموقراطية في لبنان، قبل الانتخابات بقانونها اللاغي للوطنية وبعده: فثمة ديموقراطية مسيحية وديموقراطية سنية وديموقراطية شيعية وديموقراطية درزية وديموقراطية أرمنية إلخ… لكأنما لا تلتقي الديموقراطية مع الوطن والوطنية والعروبة… إلا في لحظات خاطفة ولأسباب تتجاوز الحدود لتصيب إيران!
وليت أن الناطقين بألسنة ملكية أو وزارية أو أميرية يقارنون الديموقراطية في لبنان (على علاتها) بأوضاع السلطات السائدة في أوطانهم والتي تعتبر الديموقراطية رجساً من عمل الشيطان… إلا في بلاد الآخرين حيث تخدم مشروع الهيمنة الأميركية (الإسرائيلية) فإذا هي تصير نعمة إلهية، تهون أمامها التضحيات مهما بلغت ملياراتها، ولكن بشرط أن تظل في الخارج، ولا يفكر أحد مهما سمت مكانته في «تهريبها» إلى الداخل الوادع والمستكين والمكتفي بأن يتفرج على الديموقراطية في بلاد الآخرين، معتبراً أنها مثل زرقة العينين والشعر الأشقر ورطانة اللغة: تخصهم وحدهم، في انتظار أن يتخلصوا من سمرتهم وعيونهم العسلية وشعرهم الفاحم، وكلها موانع «طبيعية» للديموقراطية لا حل لها إلا عند الجبار الذي على كل شيء قدير!

Exit mobile version