طلال سلمان

عن ديموقراطية احتلال انتخابات حرب اهلية

تضج الأجواء العربية بالحديث عن الديموقراطية، خصوصاً وقد تقاربت المواعيد بين ثلاث عمليات انتخابية يجري التعامل معها وكأنها محطات »تاريخية« فاصلة بين ما قبلها وما بعدها:
؟ الأولى تلك التي تمت قبل أيام في فلسطين المحتلة.
؟ والثانية هي التي قرّر الاحتلال الأميركي إجراءها في العراق تحت الاحتلال.
؟ أما الثالثة التي فهي التي نعرف موعدها (تقريباً) ولا نعرف عن قانونها شيئاً، والتي يجري الحديث عنها وكأنها الحد الفاصل بين ظلام الدكتاتورية وفجر الحرية الباهر في لبنان.
ليست »الديموقراطية« هي هي في الأحاديث عنها، بل إن المستمع إلى المناقشات حولها يكاد يصل إلى يقين بأن »الوصفة الأميركية« لمعالجة أمراض المنطقة العربية تتكيّف حسب مصالح »الطبيب المعالج«، وليس وفق إرادة »الناخب« ولا وطنه أو مشروع دولته، سواء أكانت تحت التأسيس كما في لبنان، أم ما تزال »قيد الإنجاز« في مختبرات الاحتلال، سواء أكان أميركياً، كما في العراق الغارق في دمه، أم في فلسطين المنكورة على شعبها حقوقه كافة وأولها حقه في الوجود في أرضه.
ثمة أنواع من الديموقراطية الجاهزة للتصدير بحسب مصالح »الأجنبي«، ولا علاقة للشعب المعني ومدى إيمانه بالديموقراطية أو التزامه بمبادئها وتطبيقاتها بقرار تصنيفه وموقعه في العالم الحر…
في لبنان، مثلاً، إذا بالغت في ديموقراطيتك فطالبت باعتماد الوطن الصغير دائرة انتخابية واحدة مع الأخذ بالنسبية، صنّفت على الفور طائفياً، تريد تحكيم الأكثرية بالأقلية وطُردت من جنّة الديموقراطية. وإذا ما قلت بضرورة إشراك الأجيال الجديدة في الاقتراع (من سن 18 سنة) صنفت فوضوياً تريد تدمير النظام القائم على التوازنات الدقيقة للوحدة الوطنية.
إن أنت سلّمت بالقرار 1559، وأسلمت أمر الإشراف على ممارستك الديموقراطية في الانتخابات التي علا غبارها للسفير الأميركي الهمام، ومعه السفير الفرنسي الذي يرى من واجبه استعادة الرعاية المباشرة لهذا النظام الذي كانت الإدارة الفرنسية قابلته القانونية، إذاً فأنت مواطن صالح مؤمن بالحريات متمسّك بحقوق الإنسان ومعها السيادة والعنفوان والكرامة الوطنية…
أما إن أنت اعترضت على هذا التدخل الدولي الفظ في شؤونك الداخلية ورفضت أي دور للأميركي والفرنسي، ومن ثم لمجلس الأمن، في العلاقات الداخلية بين القوى السياسية،
وإذا ما أنت رفضت هذا التصنيف الأميركي الإسرائيلي الإرهابي لأكبر تنظيم شعبي في لبنان، بطل المقاومة الوطنية وتحرير الأرض، »حزب الله«،
وإذا ما أنت رفضت أن يحدد لك الأميركي أو الفرنسي أو كلاهما، مباشرة أو عبر مجلس الأمن، علاقاتك مع أخيك السوري أو مع أخيك الفلسطيني، بينما العدو الإسرائيلي شكّل أمس، ويشكّل اليوم وغداً، خطراً مصيرياً على وجودكم جميعاً…
أما إن تجرأت فجهرت برفضك لهذا التدخل الفظ في شؤونك الداخلية، فإن قرار طردك من جنة الديموقراطية جاهز، ولا يحتاج إلا إلى إعلان صغير…
وإذا ما استذكرنا فلسطين والعراق في امتحان الديموقراطية لتوصلنا إلى استنتاج بسيط مفاده: خيارك هو الديموقراطية بلا وطن، ومن ثم بلا دولة، أي ديموقراطية شكلية معلقة على أعواد المشانق والبيوت المهدمة وفي سيارات الإسعاف التي تنقل جثث ضحايا الاحتلال إلى المقابر… أما إن أنت طلبت الوطن وخضت تجربتك المباشرة في بنائه بالديموقراطية وحقوق الإنسان وأولها الحق في الحرية، فلسوف تصنف إرهابياً وبالتالي فأنت لا تستحق وطناً لتكون مواطناً فيه.
لقد كانت تجربة الانتخابات الفلسطينية نموذجية في ديموقراطيتها، باعتراف العالم أجمع، لكن هذا النجاح الدولي قد يتحوّل في نظر السفاح أرييل شارون إلى وثيقة إدانة لشعب فلسطين بأنه إرهابي بالمطلق، من أصغر »شبل« إلى خليفة الرئيس الرمز بطل الكفاح المسلح وثورة حتى النصر والتسوية محمود عباس، الذي لم يفكّر يوماً بأن يحمل سلاحاً، ولو من باب التباهي.
لم تمنح ديموقراطية الفلسطينيين شهادة جدارة باستحقاقهم وطناً ودولة قزمية داخل الدولة العظمى: إسرائيل!
ما دمت وطنيا فأنت إرهابي، أما إذا سلّمت بالاحتلال فأنت ديموقراطي!
وفي بلد كلبنان تبدو الديموقراطية كأنها الخطر الحقيقي على الكيان القائم على قاعدة من الانقسام الطائفي المموّه بالشعار السياسي.
وأعلى الأصوات في الحديث عن الديموقراطية تكاد تكون حصراً لأعتى زعماء الطوائف وقادة الميليشيات في عدائهم للديموقراطية… فلو كان في البلاد ديموقراطية حقاً لما كانوا في سدة القيادة، وبالتالي في سدة الحكم في نظام لا يتعبون من التشهير بنقص الديموقراطية فيه بينما هم حكّامه أو المتحكّمون به، بالانتخابات على قاعدة طائفية أو بالطائفية الملغية للانتخابات…
أما في العراق فإن مَن سلّم بالاحتلال هو الديموقراطي الذي يذهب إلى جحيم الانتخابات ليموت تدليلاً على إيمانه بها وبالاحتلال معاً… إذ ربطا معاً بحيث لا تستطيع أن »تشتريهما« إلا معاً.
أما مَن اعترض على الاحتلال، فخرج عليه وقاتله استنقاذاً للسيادة ووحدة التراب الوطني ووحدة الشعب فهو »إرهابي« وهو »طائفي« يسعى إلى تجديد »الفتنة الكبرى«.
مرة تصير الديموقراطية مجرد قناع للاحتلال يأخذ الأرض والسيادة عليها مقابل منح أهلها حق التصويت على تفاصيل لا تبدل من واقع حياتهم تحت الاحتلال شيئاً.
ومرة تصير الديموقراطية إرهاباً موجهاً ضد الشعب الذي يُراد له أن يرى في الاحتلال بديلاً من وطنه ومن حرياته جميعاً.
* * *
… ولقد جاء عزيز القرار الذي اتخذه المجلس الوزاري في جامعة الدول العربية، قبل أيام، بإنشاء »برلمان العرب« في هذا السياق الديموقراطي تماماً!
كأنما أنجز مجلس الجامعة إقامة مؤسسات الاتحاد العربي جميعاً، السياسية منها والاقتصادية، الاجتماعية منها والثقافية، العسكرية منها والأمنية، ولم يتبق غير تتويج ذلك الجهد الوحدوي بإنجاز ديموقراطي يتمثل في أن تعيّن الأنظمة المتحكّمة في الأقطار المعنية »نواباً« في »البرلمان العربي« العتيد، فيكتمل الإنجاز الوحدوي بالديموقراطية المشعة!
إن الجامعة المقموعة والممنوعة والعاجزة عن التدخل في أي شأن عربي، سواء أكان في خطورة الحرب الأهلية، كما في السودان، أو في مرارة التخلي عن نضالات شعب عظيم يواجه أعتى احتلال استيطاني عنصري، كما شعب فلسطين في مواجهة إسرائيل، أو في العجز عن نصرة شعب هو بين صنّاع فجر الحضارة الإنسانية يتساقط أبناؤه بالمئات يومياً فتتحوّل أرض السواد تحت سنابك الاحتلال الأميركي إلى أرض الدم ودوّامة القتل، بينما المحتل يمنع أي عربي من التطوّع لدفن الضحايا.
جميل أن تنشغل الأنظمة العربية بإضافة برلمان جديد إلى كهوف المجالس التمثيلية القائمة خارج الديموقراطية وعلى حسابها في معظم أرجاء الوطن العربي الكبير.
أما الديموقراطية فستظل أمنية حتى يسقط الاحتلال والطائفية والدكتاتورية المموّهة بالشعارات المدوية، دينية كانت أو سياسية، والتي لا تعني غير العداء للإنسان المواطن.

Exit mobile version