طلال سلمان

عن جولة ترامب وموقع فلسطين فيها

يكاد شهر أيار (مايو) من هذا العام أن يكون “شهراً فلسطينياً” بامتياز.. من دون أن يطمس ذلك حقيقة أن هذا الشهر ذاته قد شهد اعلان قيام “دولة اسرائيل” على الارض الفلسطينية وتشريد شعبها العربي قبل تسعة وستين سنة (14 أيار / مايو ـ 1948).

في البداية تم التمهيد لمسلسل من الاحداث عبر القمة العربية الأخيرة في عمان (اواخر شهر اذار / مارس الماضي).. وهي القمة التي نفضت الرماد عن مقررات القمة العربية في بيروت في العام 2002، وأبرز ما فيها المبادرة السعودية التي تشكل “اعترافاً كاملاً بدولة اسرائيل”.. مع الرجاء بأن تترك من ارض فلسطين حيزاً لإقامة “كيان فلسطيني” مقطع الأوصال، فلا هو متصل بقطاع غزة المتروك للريح، ولا اتصال له بأي حال مع الارض الفلسطينية التي احتلت في العام 1948، ثم أن اتصاله بالأردن محدد ومحدود وبالإذن الاسرائيلي دائماً.

ثم توالت لقاءات الرئيس الاميركي دونالد ترامب مع القادة العرب الذين خص منهم الملك عبدالله بن حسين الهاشمي بلقاء استثنائي، وكذلك ولي ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان بلقاء مشابه، قبل أن يستقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وبعده مباشرة اللقاء الثاني مع الملك الاردني، قبل أن يستقبل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

بطبيعة الحال فان رئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو كان بين اوائل زوار الرئيس الاميركي لتهنئة الذات بفوزه على هيلاري كلينتون..

المهم أن دونالد ترامب قادم إلى منطقتنا، وستكون زيارته الأولى للمملكة العربية السعودية حيث سيلتقي فيها، اضافة إلى ملكها سلمان بن عبد العزيز، مجلس التعاون الخليجي بكامل أركانه.. وذلك “بعد جهود جبارة بذلها ولي ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان” على حد ما اعلنت الاوساط المتصلة به.

بعد السعودية سينتقل الرئيس الاميركي إلى الكيان الاسرائيلي، ثم ينهي جولته الأولى خارج بلاده بلقاء مع بابا الفاتيكان.. “وهكذا يكون قد التقى مرجعيات الاديان الثلاثة: الاسلام واليهودية والمسيحية … ممهداً لان يعم السلام مختلف ارجاء الكون!”

ليس مؤكداً أن الرئيس الاميركي الجديد يحمل إلى المنطقة حلولاً لازمتها التاريخية التي تعيشها منذ اقامته الكيان الصهيوني فوق ارضها في العام 1948.

لكن الاوساط الرسمية العربية تهلل لهذه الزيارة وكأنها حدث استثنائي، وانها تحمل الحل السحري لهذه الازمة الكونية المعقدة، برغم الضعف العربي الذي يكاد يكون تهالكاً، والجبروت الاسرائيلي المعزز بالدعم الاميركي المفتوح المستند إلى الاستعداد العربي التسليم بأي مقترح “دولي” يعفي العرب من مسؤولياتهم القومية تجاه شعب فلسطين.. بل تجاه الامة العربية جميعاً.

وبالتالي فمن النطقي أن نتوقع مزيداً من التنازلات العربية عن موجبات “القضية المقدسة”.. فهل يجوز الا نُكرم أكبر رئيس في العالم وقد جاءنا قاصداً المعونة لحل هذه المشكلة المعقدة والمتعبة؟

*****

إن مسار “القضية المقدسة” يكشف تفاقم عجز قادة النظام العربي عن مواجهة مسؤولياتهم تجاهها بل وتواطؤهم عليها.. وقد انعكس هذا العجز على “منظمة التحرير الوطني الفلسطيني” التي اقيمت بقرار القمة العربية الثانية في الاسكندرية اواخر العام 1963، وبعدما كانت منظمات فلسطينية عديدة ابرزها حركة “فتح” قد انتقلت إلى الكفاح المسلح، مباشرة بعد هزيمة 5 حزيران (يونيه) 1967.. ثم سرعان ما لحقت بها “حركة القوميين العرب” التي تحولت إلى “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، ثم استولدت حركات وجبهات مسلحة عديدة تحمل شعار تحرير فلسطين.. خصوصاً وقد دخلت الانظمة العربية هذا البازار المفتوح، فتولى عراق صدام حسين دعم تنظيم متحدر من “البعث العراقي” وتولت دمشق حافظ الاسد انشاء “الصاعقة” كتنظيم فلسطيني متحدر من “البعث السوري” كما دعمت “الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة” بعد انشقاقها عن “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، في حين دعمت بعض دول الخليج “فتح” بسبب توجهاتها الاسلامية.

ولقد ابلت بعض هذه التنظيمات بلاء حسن في كفاحها المسلح. وقام فدائيوها بعمليات بطولية داخل الارض الفلسطينية، او ضد اهداف اسرائيلية في الخارج، بينها اختطاف طائرات اسرائيلية واحتجاز ركابها طلباً للإفراج عن مئات من المعتقلين الاسرائيليين.

على أن مسيرة النظام العربي بعد “الزيارة” كانت قد اتخذت منحى جديداً شعاره “التسوية” بعدما خرجت مصر من ميدان المواجهة المسلحة، فاعتمدت منظمة التحرير بقيادة الراحل ياسر عرفات مسار التسوية السلمية، مع وعيها أن العدو الاسرائيلي الذي ارتاح بعد خروج مصر من الميدان، وتسليم سوريا بالمفاوضات طريقاً لاستعادة ارضها المحتلة، لن يتنازل لها عن شبر واحد من تلك الارض.

وجاء “اتفاق اوسلو” مفاجأة لأهل النظام العربي، الذين كانوا يفاوضون ـ مجتمعين ـ في مدريد مع العدو الإسرائيلي، على تسويات مرحلية..

بموجب هذا الاتفاق ونتيجة له عقد “مؤتمر للسلام” في البيت الابيض بواشنطن رعاه الرئيس الاميركي الاسبق بيل كلينتون، تلاقى خلاله رئيس حكومة العدو الاسرائيلي اسحاق رابين مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في حدائق الورد في البيت الابيض ليوقعا اتفاق السلام على مراحل … على أن التطرف الاسرائيلي سرعان ما اغتال “بطله القومي” رابين، وسرعان ما تنصلت اسرائيل من موجبات هذا الاتفاق، في حين لم يكن امام القيادة الفلسطينية غير أن تقبل بعرض “الدخول إلى الارض المحتلة” لتواصل “النضال السياسي” معتمدة على “الدعم الدولي” وصمود شعبها بعد سنوات الاحتلال الطويلة.

ولقد مات القائد الفلسطيني ياسر عرفات كمدا، بعد حصار قاسٍ له في مقر قيادته في رام الله.. ولم تنفع محاولات علاجه في فرنسا في انقاذه من موت محتم قيل في تفسيره أن هذا القائد الاستثنائي قد مات مسموماً. وقد أصر على العودة، ولو جثة، ليدفن في الارض المقدسة فلسطين..

*****

مسيرة التنازلات عن القضية المقدسة طويلة جداً، وهي بالأساس عربية وان كانت نتائجها المرة فلسطينية.. وهكذا صار يمكن للقيادة الفلسطينية أن تتذرع بالتخلي العربي، بل بالضغط العربي احياناً، بالسياسة قبل المال، للتنازل والمزيد من التنازل، والقبول بالممكن حتى لا يضيع كل شيء.

وبالتالي فان الرئيس الفلسطيني الذي دخل إلى مكتب الرئيس الاميركي ترامب في البيت الابيض مبتهجاً يستطيع الادعاء أن هذا هو أقصى ما أمكنه الحصول عليه في ظل الظروف الحاضرة.. فالعرب قد اندثروا، او يكادون. مصر مكبلة بالصلح، وسوريا غارقة في الحرب فيها وعليها، والعراق مشرذم والحرب ضد “داعش” تكلفه فوق ما يطيق. أما السعودية ومعها دول الخليج فمشغولة بحربها على اليمن السعيد الذي بات شعبه طريداً أو مقتولاً او جريحاً، لا اقتصاد ولا دولة ولا اشقاء ينجدونها، او ـ أقله ـ لا يحاربونها.

أما ما الذي سوف يحصل عليه “ابو مازن” فهو ما ترضى اسرائيل أن تتنازل عنه، علماً بأنها في مركز قوة يعززه الضعف العربي والدعم الدولي المفتوح غرباً وشرقاً، واليأس الفلسطيني من احتمال تغيير المعادلة الا بالقوة.. والقوة غير متاحة، برغم بسالة الفتيان والفتيات في الهجمات على جنود العدو الاسرائيلي بما تيسر من وسائل المقاومة (سكين المطبخ، مثلاً، او السيارات الخ).

ومقررات القمم العربية تفتح طريق التنازلات بلا كوابح… فالكل مشغول عن فلسطين بحروب أخرى ضد الذات، وهذه الحرب في سوريا وعليها مثال، والحرب على اليمن مثال آخر، والحرب على العراق وفيه مثال ثالث، وليبيا قد اندثرت، ودول شمالي افريقيا غارقة في همومها، ومصر مقيدة بالمعاهدة فضلاً عن قيود أخرى موضوعية.

في انتظار زمن آخر..

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version