طلال سلمان

عن تحقيق دولي كمصدر فتنة ومبادرة ملك عبد لة عراقية

ها هو الوطن الصغير يُعاد، مجدداً، إلى عين العاصفة، ويجني الثمار المرّة لانفتاح دولته الهشة، التي بلا أبواب، وبسلطته السياسية المنقسمة على ذاتها، ومجتمعها المشروخة وحدته، ومؤسساتها العسكرية والأمنية والاقتصادية، أمام التدخل الأجنبي، واتخاذ «الخارج» مرجعية عليا في شؤون «الداخل» جميعاً حتى القضائية منها!
ها أن الوطن الصغير يتلقى، وفي يوم واحد، تهديدات تمس «سيادته» وسلامة شعبه، تناوب على إطلاقها ـ وبذريعة الحرص عليه ـ كل من المندوبة الأميركية في مجلس الأمن الدولي سوزان رايس، و«ناظر» القرار الدولي 1559 صديق إسرائيل ورجلها في المنظمة الدولية تيري رود لارسن، الذي اتخذ من لبنان جبهة دفاع خلفية عن الاحتلال الأميركي للعراق، بتركيز الهجوم على سوريا وحزب المقاومة فيه، وصولاً إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون (الذي أعجب بموقع لبنان على شاطئ المحيط الأطلسي، حين جاءه أول مرة..)… وكانت ذريعة هؤلاء، ومعهم آخرون، في الهجوم ادّعاء الحرص على سلامة التحقيق الذي أُدخل في أنفاق كثيرة خلال السنوات الخمس الماضية، تمكيناً للإدارة الأميركية ومن معها من استثمار جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ضد كل من تقدّر أو ترى فيهم خصوماً لسياساتها في المنطقة، وهي إسرائيلية تماماً.
وعلى الجهة الأخرى من حدود هذا الوطن الصغير والتي ترابط عندها القوات الدولية بذريعة حمايته، بينما هي تحرس ـ فعلياً ـ إسرائيل، يرفع قادة الحرب في «دولة اليهود الديموقراطية» اللاغية فلسطين، أصواتهم يومياً بالتهديد، و«يكشفون» عن موقع مفاعل نووي آخر، غير «ديمونا»، في رسالة موجهة إلى المقاومة في لبنان، ومن خلفها سوريا.. وصولاً إلى إيران!
… ثم تتبرّع جهات إسرائيلية مسؤولة بإصدار «قرار ظني» في جريمة الاغتيال التي هزت الوطن الصغير وأهله العرب، تركّز فيه الاتهام على حزب المقاومة في لبنان موردة مجموعة من الأسماء الحزبية المعروفة، لتضفي شيئاً من المصداقية على معلوماتها التي سيُعاد إصدارها في «طبعات» متعددة في أكثر من وسيلة إعلامية عربية وفرنسية وألمانية وأميركية، بحيث يتبقى منها شيء ممّا أرادت إشاعته في أذهان العامة، نتيجة اتساع دائرة شيوعها.
ومن أسف أن البعض قد صدّقها واعتمدها كحقائق منزلة!
لكن أحداً لم يشرح لأبناء هذا الوطن الصغير: كيف أمكن لهذا التحقيق الدولي المنزّه عن الخطأ، برغم الفضائح التي ارتكبها ميليس وأشباهه، أن ينقل الاتهام ـ وبعد أربع سنوات طويلة من الحملات الشرسة إلى حد الجنون ـ من سوريا إلى حزب المقاومة، ومن دون أي تبرير أو تفسير! وأن يتنصل من شهود الزور الذين اعتمدت لجان التحقيق على تخريفاتهم.
الأخطر أن أحداً لم يقدّم لأبناء هذا الوطن الصغير تبريراً أو تفسيراً عن استبعاد إسرائيل من دائرة الاتهام بالجريمة التي كادت تدمّر لبنان، برغم أنها المستفيد الأول منها ومن تداعياتها التي ضربت العلاقات اللبنانية ـ السورية، وخلخلت العلاقات بين الأخوة في الداخل، وشوّهت صورة المقاومة المجاهدة بمحاولة إلصاق تهمة الاغتيال بالذين يعرفون عدوهم الإسرائيلي جيداً، وقد قاتلوه كما لم يقاتله قبلهم إلا أبطال الجهاد.
لقد ثبُت أن إسرائيل تتنصت على لبنان جميعاً، واعترف العديد من عملائها في الداخل بأنهم كانوا يزوّدونها بمعلومات تفصيلية عن المقاومة والجيش والوضع الاقتصادي، وأنها كلفتهم بعمليات اغتيال تستهدف إشاعة مناخ من الفتنة.
وبرغم ذلك فإن كثيراً من المتاجرين بدم رفيق الحريري، في الداخل كما في المحيط العربي، فضلاً عن أصحاب القرار الدولي، يرفضون «مبدأ» اتهام إسرائيل، لأنهم «قرّروا» السعي لتشويه صورة المقاومة بدمغها بتهمة قتل الزعيم السياسي الكبير الذي شدّته إليها علاقات وثيقة مشهودة.
إنهم يريدون التغطية على جريمة اغتيال خطيرة غيّبت واحداً من الكبار بين رجال الدولة في لبنان، باغتيال أنبل ظاهرة في الوطن العربي الذي تتهدّد دوله الاندثار بالتقسيم أو بالحروب الأهلية المفتوحة، لتأمن إسرائيل إلى مستقبل هيمنتها عليه جميعاً وبمختلف أقطاره، في ظل الشراكة الاستراتيجية المعلنة مع بيت الحكم الأميركي كائناً ما كان لون «الرئيس» فيه.
[ [ [
هل من المبالغة القول، في هذه اللحظة تحديداً، إن الولايات المتحدة الأميركية ترعى ـ سياسياً ـ وتمد بالمال والسلاح مجموعة من الحروب الأهلية في المنطقة العربية؟!
يمكن البدء باليمن المهدّد بالتشليع عشائر وقبائل مقتتلة، وصولاً إلى العراق المدمّر مرة بالطغيان ومرة ثانية بالاحتلال الأميركي، ومرة ثالثة بالخلافات العبثية بين طبقته السياسية الوافدة من مغتربات، والتي لا يحب بعضها أن يرى في العراق دولة قوية، وانتهاءً بالسودان الذاهب نحو التفتيت في دول ستظل محتربة حتى يوم القيامة، لأسباب قد تتصل بالدين أو بالعرق أو بالنفط أو بالاختراق الإسرائيلي…
كل هذا بغير أن ننسى مصر وما يجري فيها من صراع سياسي يتلطى بالانتماء الديني، ليزيد من إضعافها بحيث يلغي نهائياً دورها العربي ويشغلها بهمومها الثقيلة: من مياه النيل، إلى التجليات الاجتماعية للفقر مقابل فحش الإثراء غير المشروع الذي مصدره النهب المنهجي لإيرادات الدولة وممتلكاتها الكثيرة.
تكاد السياسة الأميركية أن تعلن عن سياقها المعتمد في شطب الهوية العربية لهذه الأرض وشعوبها، في تطابق كامل مع الخطط الإسرائيلية التي أفصحت عن «هويتها» الكاملة عبر إلزامها من يدخلها أو يقيم فيها بأداء يمين الولاء «للدولة اليهودية الديموقراطية»، بما يفضح تهافت الإدارة الأميركية واندثار تعهداتها «بمنح» دولة لشعب فلسطين في أرضه التي لم تعد له… بل إن القلق يتملّك اليوم مَن تبقّى من هذا الشعب داخل أرضه، والمهدد بالطرد والترحيل، غداً، بتهمة نقص الولاء لإسرائيل التي ترفضه «كمواطن»، وتمنع على أهله المحاصرين في الضفة أو في غزة أن يقيموا «شبه دولة»، لن يكون له مكان فيها إذا ما تمّ تهجيره… ديموقراطياً، وبالقانون العنصري المعلن!
[ [ [
فأما العراق فقد عاد إلى صدارة الصحف ونشرات الفضائيات مع الإعلان عن المبادرة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز، والتي استقبلتها الخلافات بين «المكوّنات» السياسية في العراق بما يهددها
بأن تُطوى تماماً، أو أقله في انتظار تعزيزها بقوة دفع جدية تجعلها قابلة للحياة وسط أرض السواد التي تكاد تتشظى دولاً وفيدراليات بعدد الطوائف والمذاهب والعناصر المكوّنة للشعب العراقي المنكوب في الغالب من صفحات تاريخه.
وتحوم أسئلة بلا جواب في الأفق العربي:
هل أطلق عاهل السعودية مبادرته هذه اندفاعاً مع غيرته وحميته العربية والحرص على إعادة العراق إلى طريق السلامة؟!
هل هناك نقص في التنسيق الضروري مع «دول جوار العراق»، بحيث أن المبادرة جاءت متعارضة مع مصالح بعضها، أو متجاهلة لأدوار بعضها الآخر؟!
وبالتحديد: أين الأميركيون من هذه المبادرة؟ وأين الإيرانيون؟
ثم أين الأطراف العربية وأولها سوريا التي التقى رئيسها قبل أسبوعين فقط العاهل السعودي، وكان العراق وصيغة الحكم مستقبلاً فيه موضوعها الأول؟
إن تقديم الأمير سعود الفيصل للمبادرة كان ينقصه الكثير من المعلومات عن مواقف «دول الجوار»، ثم أنه كان عمومياً في ما يتصل «بالمكوّنات» السياسية العراقية… وتبدى وكأن هذه المبادرة تتجاوز ما كانت الأطراف الكردية قد أطلقته وباشرت محاورة الأطراف العراقية على أساسه، بما أوحى وكأن محاولتها هذه تحظى برعاية أميركية، ولو غير معلنة؟!
[ [ [
لا يفيد التمني مع التحولات السياسية المحكومة بضغوط خارجية ثقيلة وبانشقاقات داخلية تهدد الكيان في صميمه؟
وهذه تجربة لبنان شاهد وشهيد..
خصوصاً أننا ما زلنا نراهن، في لبنان، لحماية وحدة الشعب والكيان، على مبادرة مشتركة سعودية ـ سورية تصد التدخل الخارجي وتحصّن هذا الوطن الصغير من فتنة جديدة تطل علينا نذرها مع تصرفـــات لجنة التحقيق الدولية التي يتجمع في مركز توجيهها الأصلي ـ وهو إسرائيلي الغرض وإن تعددت هويات المشاركين فيه ـ أعداء العرب، مسلمين ومسيحيين، وفي مختلف أقطارهم بين المحيط والخليج!

Exit mobile version