طلال سلمان

عن انقسام في سلطة ومخاطرة على وحدة لبنان

تتكاثف غيوم القلق في أفق الوطن اللبناني الصغير، وينام مواطنوه في ظل الخوف من يومهم على غدهم، ويفتقدون من هو قادر على أن يعيد إليهم الشعور بالأمان.
وتزيد من قلقهم مجمل التطورات في المنطقة من حولهم، فلسطين بداية وبعدها العراق، حيث يصبح الانسحاب الإسرائيلي من غزة وكأنه نقطة الختام في مسيرة التحرر أكثر منه مقدمة للنصر الموعود الذي لم يعد ممكناً حمله ولو كحلم، في المدى المنظور. بينما تتبدى أرض الرافدين مهددة بتمزق كيانها السياسي في ظل ضغط الاحتلال الأميركي لتفجير مسلسل من الحروب والفتن المذهبية بين العرب والعرب والعنصرية بين العرب والكرد..
والقلق في لبنان ليس شخصياً: إنه يتسع ليشمل وحدة الوطن ودولته، ومستقبل النظام في ظل الصراع على السلطة التي اهتزت »مركزيتها« فانفتح الباب واسعاً لمشاريع الفيدراليات (حتى لا نقول الكانتونات) الطائفية والمذهبية يشجع عليها (ويرعاها) التدخل الأجنبي الذي يتخذ شكل »الوصاية« مبرراً ذاته »بتحرير لبنان من الهيمنة السورية«، بقوة القرار 1559، ثم باتخاذه شكل الادعاء العام في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بكل ما يتيحه هذا الموقع من قدرات لتوظيف الدم المراق في ما يخدم »المتدخل« أكثر من الضحايا.
ومنذ 14 شباط الماضي وحتى اليوم، وبرغم كل التطورات والتحولات التي شهدها لبنان، فإن عنصر الأمان والاطمئنان إلى الغد قد ظل مفتقداً، خصوصاً أن ما سبق ذلك اليوم الأسود، وبالتحديد منذ اتخذ القرار بالتمديد، قد خلخل السلطة المركزية، وأصاب صورة الدولة بالشحوب بحيث خسرت مرجعيتها الجامعة وفتحت أبواب القلق على المصير على مصراعيه.
طارت حكومة وتعذر تشكيل أخرى، ثم أمكن بكثير من التدخل الدولي قيام حكومة انتقالية لمهمة محددة هي إجراء الانتخابات في موعدها وبغض النظر عن قانونها، لأن النتائج المفترضة (والمطلوبة) كانت تتصل بالتوقيت باعتبارها الضمانة الأولى لاستيلاد مجلس نيابي جديد »متحرر« من »عهد الوصاية« السابقة، وأكثر استجابة لمتطلبات »التغيير« الذي أُسبغت عليه صفات »ثورية« لا يمكن تحققها في لبنان إلا بالمعنى المعاكس لما توحي به الكلمات..
جرت الانتخابات بالأمر، إذاً، في ظل هدوء أمني ملحوظ، وانتهت بنتائج سياسية تؤكد الشرخ في البلاد ولا تطمسه أو تقدم وعداً بتجاوزه.
ذهبت كل طائفة في طريق..
ولم تنفع ائتلافات الاضطرار، أو التحالفات الثنائية ضد ثالث، في التخفيف من حدة الانقسام، الذي لا تستطيع المعارضة الديموقراطية، شكلاً، ومن داخل المؤسسات أن تموّه واقعه الطائفي..
… وحين ذهب نواب الأكثرية إلى الاستشارات في القصر الجمهوري فإن الخضوع للشكليات الدستورية لم يكن كافياً لإدراج هذا المسلك الاضطراري في خانة الالتزام بالأصول الديموقراطية.
كانت تلك محاولة ثانية لتمويه الواقع، في انتظار أن تجيء لحظة الحساب مع انتهاء التحقيق في جريمة الاغتيال التي تحولت إلى »استثمار دولي« يتجاوز لبنان، وإن كان هذا البلد الصغير موضوعه بعنوان »كشف الحقيقة عمّن حرّض وخطط ونفذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري«.
ها نحن الآن أمام واقع غير مطمئن: فالسلطة منقسمة على ذاتها، يتربص بعضها بالبعض الآخر، ويتربص بها معارضوها الذين رفضوا كل العروض للمشاركة، عن سابق قصد وتصميم، بينما تعاني المؤسسات والإدارات الرسمية من حالة شلل كامل لا يمنعها فقط من الإنجاز بل هو يعطل الاستمرارية ولو بالحد الأدنى، مما يهدد الكثير منها بالإفلاس أو بالخراب المطلق بحيث يتعذر إصلاحها غداً.
إن وضع السلطة فريد في بابه: لا هو تعايش بين متعارضين، ولا هو ائتلاف اضطراري بين متخاصمين. إنه زواج بالإكراه بين قوى كل منها تعمل لإطاحة الأخرى.
وإذا كنا قد بدأنا نسمع تلويحاً بالخروج من الحكومة يطلقه بعض أركانها، فإن أطرافاً أخرى يخوضون معركة الدفاع عن الرئاسة من موقع هجومي، مما يحوّل جلسات مجلس الوزراء إلى حلبة للمصارعة بين من يعتبرون أنفسهم »ضحايا« سلطة قاتلة، وبين من يرون أن هؤلاء الحاكمين من موقع المعارضة يريدون استكمال انتصارهم الشعبي (في الانتخابات) بإنهاء التمديد ومفاعيله، تمهيداً لوضع يدهم على الحكم بكامله..
وهكذا فإن الاختلاف حول أية مسألة قد تبدو تفصيلية سرعان ما يتحول بقوة الفراغ أو
التعارض والتباين واختلاف المصالح في مركز القرار إلى أزمة سياسية، يمكن إعطاؤها مضموناً طائفياً أو مذهبياً مما يجعلها قنبلة موقوتة تهدد هذا الاستقرار الهش بالنسف.
بصيغة أوضح: فإن معظم الحكومة الذي يحكم من موقع المعارض ينظر إلى رئيس الجمهورية بريبة، مفترضاً أن التطورات المقبلة ستسمح قريباً جداً، وفي مهلة قد لا تتعدى شهرين قد تسمح له بالطعن في شرعية التمديد له، وبالتالي في شرعية استمراره رئيساً، مما يمهد لانتخابات رئاسية جديدة..
ثم إن »المعارضة« التي نأت بنفسها عن المشاركة في الحكومة لا تخفي مراهنتها على تطورات قد تعطيها الفرصة للتقدم نحو الرئاسة، معززة بكثافة تأييد »طائفة الرئيس« لها..
بالمقابل فإن المجلس النيابي ساحة صراع، مرشح لأن يغدو علنياً بين رئاسته وأكثريته (التي اقترعت لرئيسه مضطرة)، وهذا عنصر تعطيل إضافي للعبة الديموقراطية لأنه يحمل بذور انقسام طائفي مذهبي… وتكفي حكاية المجلس الدستوري عنواناً لهذا الصراع المفتوح..
ثم إن هذه الأكثرية بلا برنامج، فإذا صار لها برنامجها المعلن انقسمت فعاد كل طرف منها إلى حصنه (وهو في الغالب الأعم طائفي أو مذهبي)..
فضلاً عن أن السلطة بلا أجهزة أمنية مؤهلة وقادرة على المهمات الهائلة التي تنذر بها طبيعة المرحلة، والتي ربما كانت بعض الاغتيالات السياسية بين عناوين الخطر فيها.
أين تقع الاجتهادات المختلفة حول آلية التعيينات (الإدارية والأمنية) فوق خريطة الصراعات هذه؟!
ثم من سيتولى الاهتمام بالأزمة الاقتصادية التي بين عناوينها تزايد النفقات وتراجع الإيرادات، حتى لا نشير إلى معضلة الدين العام وتراكمه وفوائده المتوالدة كل صباح، والتي تتضاءل الآمال يوماً بعد يوم في مساعدة »الوصاية الدولية« على تفريجها، عبر مؤتمر مشابه لباريس 2…
ويروى في هذا المجال أن وزيرة الخارجية الأميركية قد نصحت بعض من التقتهم من المسؤولين خلال زيارة السبع ساعات بالتوجه إلى الدول العربية النفطية »التي بلغت وارداتها أرقاماً فلكية بحيث لا تقدر على توظيفها داخل بلادها، ثم إنها تفيض عن حاجتها، ولا بد أن تمد لكم يد المساعدة، لأن في استقرار لبنان مصلحة لها«؟!
البعض يرى أنه كلما اقتربت لجنة التحقيق الدولية من إنجاز عملها وبالتالي من إصدار قرارها الاتهامي، ستتكاثف أجواء القلق في أفق البلاد، وستعزز شبهة الاتهامات أو أنها ستعزز تمهيداً لاستثمارها في التحول السياسي المطلوب، لأسباب شتى، بعضها يتجاوز حدود لبنان، فيتصل بما جرى ويجري في غزة وآثاره على سائر أنحاء فلسطين، وبعضها الآخر بالعراق ومسار الفتنة المدبرة فيه وصولاً إلى إيران التي كانت وما تزال لاعباً إقليمياً كبيراً، مع التنبه إلى أن دورها إلى تعاظم وليس إلى تراجع، في ظل التطور السياسي الجديد الذي شهدته عبر انتخاباتها الرئاسية مؤخراً.
* * *
ليست هذه الكلمات للتخويف أو تعظيم مخاطر قائمة فعلاً.
ولكنها للتنبيه إلى دقة الظرف الذي يعيشه لبنان، وإلى ضرورة التنبه واليقظة حتى لا تتحول الفتنة إلى استثمار سياسي في ميدان الصراع على الحكم، بينما الدولة تكاد تصبح أثراً بعد عين.
إن الصراع السياسي دليل حيوية، وهو السبيل إلى التقدم في بناء الدولة على أسس ديموقراطية.
أما الصراع بالطوائف والمذاهب طلباً لمكسب سياسي فإنه يذهب بالبلاد ودولتها، من دون أن يفتح ذلك الباب فعلاً لدويلات الطوائف أو فدرالياتها العتيدة.

Exit mobile version