طلال سلمان

عن انتخابات تزكية ديموقراطية وصاية دولية

بعد تقديم التهنئة للفائزين بالتزكية في الانتخابات التي سنشهد فصلها الأول نهاية هذا الأسبوع في بيروت، حيث قررت صورة الرئيس الشهيد رفيق الحريري النتائج مسبقاً، يمكننا مناقشة مسألة الديموقراطية في هذا البلد الصغير الذي يحظى بعناية غير مسبوقة تكاد تكتم انفاس شعبه العنيد.
لا تستحق بضعة مقاعد في دوائر مختلطة الهوية الطائفية أن تؤخر الانجاز الديموقراطي الفريد حيث أعلنت النتائج من قبل ان يتم الاقتراع، في معظم لبنان بعدما تمت العملية الانتخابية برغم الاعتراضات الجدية على القانون والموعد والتحالفات بالإكراه بين المرشحين، وحيث جدول الأعمال محدد تماماً بغض النظر عن أسماء الفائزين وانتماءاتهم السياسية المعلنة.
الانتخابات بذاتها هي الأصل، على الطريقة العراقية: المهم ان تجري في موعدها المقرر، ولا تهم نسبة الديموقراطية فيها. النقص في ديموقراطيتها يمكن لجورج بوش ان يعوضه.. فإذا ما غفل أو نسي يمكن لزوجته السيدة لورا ان تستدرك النقص عبر مشاركتها في ندوة البحر الميت، حيث يسمعها اللبنانيون جيداً، أما أمر العمليات فمن مسؤولية وزارة الخارجية، بوزيرتها الصارمة وسفيرها الحازم.
الانتخابات، الانتخابات، وما عداها مرجأ.. بل ان الانتخابات هي المدخل الشرعي إلى ما بعدها من مهمات جليلة تتجاوز حدود لبنان إلى »الشرق الأوسط الكبير« برمته.
الانتخابات أهم من نتائجها. الانتخابات في الشرق أهم من الديموقراطية، بل انهما مسألتان مختلفتان تماماً. هذا ما يكرره الرئيس الفرنسي على مسامع المهتمين بلبنان، وهو يحثهم على انجاز هذه المهمة التاريخية بأسرع وقت وبأي ثمن، مستشهداً بمصر والأردن والخليج المذهّب.
ولتحقيق هذه الغاية يجول سفيرا جورج بوش وجاك شيراك، يومياً، وبوتيرة منسقة، على المراجع والزعماء والقادة وأهل الرأي، ويُخضعان أعمال الوزارات والإدارات المعنية للتفتيش الدوري. ينسقان بين الجميع، يبذلان مساعيهما الحميدة لمصالحة المختلفين على المقاعد، وتهدئة المتطرفين إلى حد المطالبة »بأن يصوِّت كل لربعه«، ومساومة المتنازعين على ادعاء تمثيل هذه الطائفة أو تلك، وهما يرددان بلا تعب: من قاطع فهو خائن، ومن تخلف فهو فار من الجندية في زمن الحرب.
ولأن توجيهات الرئيسين العظيمين تحتاج إلى جانب سفيريهما الى من يشرف على التفاصيل ويتابع الأداء ويعطي شهادة دولية بنجاح »التجربة النموذجية« حول اجراء انتخابات بلا ناخبين في »معركة« تنتهي قبل ان تبدأ، فلا بد من »المراقبين الدوليين«. وهكذا امطرت المنظمات والمؤسسات الدولية لبنان بقوافل لا تنتهي من المراقبين: الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، اللجان الدولية لحقوق الإنسان، منظمات المجتمع الأهلي (وهي بعدد النجوم في السماء).
جاءت قوافل المراقبين وأخذت تتناوب على زيارات الاستجواب والتدقيق مع رجال الدنيا والدين، تجري استطلاعات الرأي، وتدقق في المعلومات الرسمية… حتى لقد استقبل بعض المراجع أكثر من بعثة رقابة في اليوم الواحد، واستراب في الأسئلة »المخابراتية« المطروحة عليه، ولكنه أجاب بما فتح به الله عليه حتى لا يؤخذ بشبهة الاعتراض على الانتخابات أو معاداة الديموقراطية.
ما أكثر المراقبين، وما أقل الانتخابات: مرشحين ومقترعين!
لكل مواطن مراقب دولي، بينما »دولته« غائبة تماماً، بل مغيبة قصداً، خصوصاً ان رئيسها يكاد يكون المعارض الوحيد للقوى جميعا، وللانتخابات بقانونها وموعدها ولوائحها وتزكياتها والمراقبين، لأنه أخرج نفسه من دائرة التأثير، وبات أشبه بمحرر لزاوية الوفيات، في نشرة اعلانية دورية.
والمراقبون لزوم ما لا يلزم، إلا لما يدبر للمستقبل. فالنتائج المعلنة اليوم لانتخابات الغد سيكون لها فعلها في مجريات ما سيكون في لبنان.. بعد حين.
ثم ان هؤلاء المراقبين يأتون من البلاد البعيدة، حيث الدولة لا دين لها، وحيث الناخب مواطن لا رعية في طائفة، وحيث السياسة اقتصاد وتعليم وانتاج وبرامج للتقدم في قلب العصر.
يطوف المراقبون على »المرجعيات«. يطرحون أسئلة ساذجة. لا يمكن ان تكون كل هذه الأسئلة لتفسير فوز من لا منافس له في دائرته.
* * *
وبينما تتزامن الانتخابات مع الذكرى الخامسة لاجلاء الاحتلال الإسرائيلي بارادة المقاومة ودماء مجاهديها، فإن الذين »تحالفوا« مع الاحتلال وحاولوا ان يمرروا معاهدة الصلح معه، يتصدرون الصفوف الآن باعتبارهم من قيادات »ثورة الأرز« من أجل السيادة والحرية والاستقلال.
بالمقابل، فإن سوريا، دولة وشعباً شقيقاً وجاراً أبدياً وصلات قربى ومصالح مشتركة، هي الشر المطلق، بجريرة اخطاء إدارتها الاستخباراتية للشأن اللبناني.
أما العروبة فتهمة خطيرة يمكن ان تودي بمن يرفع شعارها أو ينادي بحمايتها هوية للوطن والمواطن.
ولأن المواطنة حلم عزيز المنال فإن السيادة المطلقة تبقى للطائفية.
لم تعد الطائفية عيباً أو معصية. صارت موضع مفاخرة: من يمثل السنّة؟ من يمثل الشيعة؟ من يمثل الموارنة؟ من يمثل الدروز؟ من يمثل السريان والكلدان؟
من يشهر طائفيته هو الفائز بالتزكية.
… واتفاق الطائف أشبه بعزيز قوم ذل، يتحدث عنه المتحدثون وكأنه مات أو على وشك ان يموت… تتعالى الدعوات إلى الالتزام به من الأسرع في الخارجين عليه، والأعظم تبريراً لهذا الخروج بادعاء الحرص على الوحدة الوطنية.
لم يلحظ أحد من الذين طالبوا بقانون الستين (للانتخابات) انهم إنما يخرجون من الطائف وعليه.
ولم يلحظ أحد ممن قبلوا بقانون الألفين ان النواب الذين سينتجهم في المناخ السائد لن يدينوا بنياباتهم لاتفاق الطائف ورعاته، بل للوصاية الدولية التي تفرض التبرؤ من أي علاقة بالعروبة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
وفي ظل سيادة المناخ الطائفي، بل المذهبي، يتهاوى اتفاق الطائف بعدما فقد حماته، خصوصاً ان العائدين للانتقام من الماضي يتصدرون الصفوف، برغم ان أحداً منهم لم يعترف بأنه كان مخطئاً، ولم يكلف نفسه الاعلان عن مراجعة نقدية لمواقفه… محتفظين بحقهم في »العفو« عن »اللبنانيين« الذين تخلوا عنهم وسط المعركة، إذا ما أعادوا إليهم الاعتبار نيابات ووزارات تمهيداً للرئاسات!
لا تصنع الديموقراطية بروح الثأر، ولا يمكن استيلاد الغد الأفضل بمشاعر الانتقام.
والعائدون من الماضي من دون توبة ومن دون مراجعة يريدون محاسبة الذين تصدوا لاخطائهم ولم ينصروهم حين انحرفوا بالسياسة إلى حمامات الدم.. تحت الشعار الطائفي.
* * *
لا تتعايش الديموقراطية والنزعة الطاغية إلى الانتقام من.. التاريخ!
ويستحيل الحكم بروح الثأر.
واتفاق الطائف لا يتحمل كل هذا الفرز الطائفي والمذهبي، كما انه لا يتحمل كل هذا الضغط الذي تتسبب به الوصاية الدولية لادامة هذا الفرز وتشريعه عبر الانتخابات.
كل من له ثأر على الإدارة السورية جعله ثأراً من الطائف،
وكل من له ثأر على المقاومة وحزبها رآها فرصة للتحرر من الطائف، محملاً تلك التسوية التي شرطها التوافق على الثوابت، وبينها المقاومة، فوق ما تطيق.
وأشد حصار على المقاومة ان تنزع عنها صفتها الجهادية الوطنية الجامعة، لتجعلها شيعية، ثم تنقض الاجماع الشيعي عنها فتجعلها ممثلة لبعض الشيعة، ثم تحاصرها أكثر بسلاحها فتصور وكأنها معادية للديموقراطية وحقوق الإنسان ومصدر الخطر على لبنان.
بعد ذلك يمكن التقدم تحت راية الوصاية الدولية إلى الفتنة لضرب المقاومة. والمدخل جاهز في القرار 1559 و»ضرورة احترام الشرعية الدولية«!
… وهكذا، بدلا من ان نذهب بالديموقراطية في اتجاه بناء لبنان الوطن بالعودة إلى اتفاق الطائف المهجور، نتوجه نحو الائتلاف بين الطوائف لإعادة صياغة احجام القوى السياسية تمهيداً لمرحلة »التصفيات«.
… كل هذا ولم يمر على انجاز التحرير العظيم إلا خمس سنوات فقط، وعلى »تفاهم نيسان« الذي كان بين ممهدات النصر، بالدور الاستثنائي الخاص فيه للرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلا تسع سنوات لا غير.
انها مقدمات مرحلة ما بعد الطائف.. وهو تقدم إلى الخلف في اتجاه نظام طوائفي، إذا استمرت هذه الرياح السموم تعصف بوطنية اللبنانيين فتأخذهم بعيداً عن وحدتهم الضامنة لمستقبلهم، تحت عين الوصاية الدولية الساهرة.

Exit mobile version