طلال سلمان

عن اميركا عرب في مصر ارباح خسائر

مرّة كالعلقم، قاسية كالمشي فوق الجمر، لكنها ضرورية ولا بد منها مهما بلغت تكاليفها لأنها تبدو كشرط حياة، في الظروف الدولية السائدة: تلك هي الصورة »الشعبية« للعلاقات بين جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأميركية.
هناك الانبهار بالقوة المادية والعسكرية ووجوه التقدم العلمي والتقني، خصوصا أن مصر أواخر القرن تبدو مهيضة الجناح، ضاع منها زمن ثمين وهي تتعثر بحثاً عن طريق ثالث غير محدد الملامح يلحقها بالعصر من دون تنازل عن الهوية، ويوفر لها الازدهار من دون أن ترهن مستقبلها، ويحفظ لها دورها في أمتها من دون أن يعيدها إلى ميدان الصراع المباشر مع إسرائيل التي على المستوى الآخر تؤثر حتى التحكم (أحيانا) في العلاقات المصرية الأميركية.
في جانب آخر هناك إحساس بأن مصر تعطي أكثر مما تأخذ، وبأن »القوة الكونية العظمى« لا تؤمن بالصداقة ولا ترعى حقوق الصديق، وأن غرور القوة يأخذها إلى منطق الفرض، وأن علاقة التطابق والتكامل في المصالح والسياسة بين واشنطن وتل أبيب لا تبقي مساحة واسعة لرأي القاهرة في شؤون المنطقة.
فإذا جاء ذكر المعونات الأميركية تعالى الهمس بأنها أقرب لأن تكون قيودا سياسية، أو أنها تستخدم في بعض الحالات أداة للتحكم في السياسات الداخلية ومحاولة فرض خيارات من شأنها تحجيم دور الدولة (وقيادتها)، وتعديل في جدول الأولويات وتزكية اتجاهات وشخصيات محددة على حساب التوجهات العامة المعتمدة والأكثر مراعاة للواقع الاجتماعي في مصر ال65 مليوناً من الفقراء المتوالدين بغزارة أمكن لجمها، ولو جزئياً، ولكنها ما زالت قادرة على التهام كل النمو المحقق.
مع كارثة الطائرة المصرية التي سقطت بعد دقائق من إقلاعها من مطار كينيدي في نيويورك وابتلعها المحيط الأطلسي، انفجرت »العواطف الشعبية« دفعة واحدة: »أولاد الهرمة الأميركان… هم المسؤولون عن مقتلة أبنائنا«!
أقسى من الحسرة على الضحايا، وبينهم نخبة من ضباط الجيش المصري العائدين من دورات تخصص، كانت مرارة الشعور بالقهر والعجز، وربما بالمهانة، فمصر كانت ضحية مرتين: فهي قد خسرت جمهرة من مواطنيها وضيوفها، وبعض سمعتها ومعنوياتها، وكذلك فقد وضعها الأميركيون منذ اللحظة الأولى في موقع الاتهام إما بنقص الكفاءة في قيادة طائرة (!!) وإما بتهور طياريها أو شذوذهم (الانتحار؟!) أو »بالتواطؤ« لتدبير تفجير فيها!
لكن الحاجة لا ترحم، وبالتالي فلا بد من الالتفات الى الجهة الأخرى.
لم يعد الوجود الأميركي »خارجياً« او »هامشياً«. صار في قلب السلطة، فكثير من كبار المسؤولين هم من خريجي »المدرسة الأميركية« في التفكير الاقتصادي الاجتماعي، وكثير من قرارات السلطة الاقتصادية تحمل بصمات »النصائح« الأميركية، مباشرة او بالإيحاء، او عبر توجيهات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وللنفوذ الأميركي »حزبه« بل »احزابه« السياسية الآن، وهو يتبدى بأكمل تجلياته في ظاهرة جديدة، هي أكثر من نادٍ وأقل من حزب، تتخذ لنفسها اسم »رجال الأعمال«.
»رجال الأعمال« تسمية عريضة وغير محددة، وبالتالي يمكن ان يدخلها المخلص في جهده للمساهمة في تصنيع مصر والتقدم بها نحو المكانة التي تستحقها، كما هي تتسع لأصحاب الادعاءات المكبرة التي تخفي (ولا تخفي) أطماعهم ورغبتهم في اهتبال الفرصة لنهب ما تيسر من ثروة مصر الوطنية، خصوصاً مع طرح شركات القطاع العام للبيع، ومع تحرق النظام الى التسريع في تنمية البلاد.
بين رجال الأعمال هؤلاء من يعترف بضرورة التعويض عن دور الدولة في تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، لا سيما انهم قد »اشتروا« منها قطاعها العام، واعترضوا على دور »دولة الرعاية«، مطالبا باحترام حرية السوق ومفاهيم التجارة الحرة ورفع الحماية وإلغاء الدعم… وثمة مشروعات إسكان، ولو محدودة، لصغار الكسبة بدأت تنتقل من الخرائط الى الأرض، يمكن اعتبار »مساكن زينهم« نموذجاً ناجحاً لها.
على ان الصورة عموماً، وبالنتائج المحققة على الأرض، ما زالت بعيدة عن التمني، وفي ذهن عامة الناس فإن »رجال الأعمال« هم من اصحاب الحظوة الذين يعطون ما لا يستحقون، فيأخذون قروضاً ضخمة عبر المصارف (الحكومية) من دون ضمانات كافية وينشئون بعض الصناعات الاستهلاكية ذات الارباح المجزية، ثم قد يمتنعون او يمتنع بعضهم عن سداد القروض، كما قد يلجأ بعضهم الى »تهريب« أرباحه الى الخارج… أي انه يشتغل برأس مال أخذه من الدولة بغير وجه حق، ثم لم يسدده حسب الاصول، واستطاع تكوين ثروات ونزحها الى الخارج مستفيداً من الحرية شبه المطلقة لرأس المال تشجيعاً واستدراجاً للاستثمارات العربية والأجنبية، وهي أقل مما كان مقدراً ثم إنها تذهب الى حيث لا تفيد بالأساس إلا اصحابها وطمعهم في تحقيق أعلى معدل ربح في اسرع وقت.
ولعل بعض اسباب »أزمة الدولار« التي هزت الاقتصاد المصري مؤخراً يعود الى هذه الوقائع.
هي اميركا، ودائماً اميركا…
فالمعونة الاميركية لمصر محكومة بشروط »سياسية« بعضها معلن وبعضها الآخر خفي، ولكنها تطبق بغض النظر عن الاعتراضات، وثمة لغط كثير واتهامات قاسية للمستفيدين من هذه المعونة التي يذهب بعضها الى الاميركيين أنفسهم وبعض ثانٍ لمن يحظى بتزكية اميركية ولا يتبقى في يد الدولة ولقرارها إلا القليل.
يعلو صوت الوجع ومحدثك يسألك: »لا تحدثني عن الاستثمارات العربية، انها أقل بكثير مما يجب ومما يمكن ان يفيد. ولا تحدثني عن التعاون العربي، ليس ثمة من تعاون فعلي. ان التجارة العربية البينية لا تزيد على 8 في المئة من مجمل أرقام حركة التجارة العربية. ان بعض الدول الخليجية تستورد من الدول الآسيوية (ناهيك بالاوروبية والاميركية) بمليارات الدولارات بضائع يمكن لأصغر دولة عربية ان تقوم بتصنيعها فيما لو انتبه العرب والتزموا بمنطق مصالحهم الاقتصادية المشتركة. خذ عندك يا سيدي: البخور، الكوفية، الجلابيات او الدشاديش، فناجين القهوة المرة، الغلايات الخ قبل ان نصل الى ما هو ابهى!
ليست هذه الصورة كاملة، فالمؤكد ان مصر قد حققت نموا اقتصاديا مهما خلال السنوات العشر الاخيرة، وكثير من مشكلات اليوم هي مشكلات تقدم ونمو وما يترتب على الخصخصة، ولا يمكن ان يظهر اثر الاصلاح الاقتصادي في صورته الكاملة قبل فترة تمتد بين خمس وعشر سنوات… وثمة شبه إجماع على نجاح التجربة، فقد تمت خصخصة اكثر من 120 شركة كبرى كانت تضم اكثر من 180 ألف مواطن، من دون ان تخرج تظاهرة واحدة، ومن دون أية آثار سلبية ناجمة عن الظلم، اذ كانت الدولة حريصة على المتابعة والرقابة والرعاية بحيث لا تنتج عن الخصخصة آثار اجتماعية مدمرة.
ولا شك في ان حجم الاستثمار في مصر كبير، لكنه أقل مما كان يؤمل ان تكون.
والهاجس الاساسي للسلطة في مصر، كما يقول مسؤول كبير »ان نبني قدرات مصر الاقتصادية لتصبح قوة اساسية في المنطقة، ومن مصلحة العرب جميعا ان تكون مصر قوية اقتصاديا… ولكن أين العرب يبادرون؟«.
المسألة السياسية في مصر بحاجة الى نقاش طويل، فالشكل مستوفى ولكن الامر يتعلق بالمضمون، وصحف المعارضة موجودة ومتعددة، ولكن المعارضة لا تفيد في اكثر من تزكية النظام وتمكينه من التدليل بها على ديموقراطيته.
ولكي نصل الى خاتمة الحديث الاقتصادي لا بد من الاشارة الى واقعتين محددتين لتوضيح الصورة:
الأولى ان عددا كبيرا من السيارات الألمانية والفرنسية والأميركية واليابانية يتم تجميعها الآن في مصر… لكن »الحسبة« تدل على خسائر مصرية، فهذه الشركات الأجنبية ومعها وكلاؤها المحليون لم يبنوا جميعا خطوط تجميع بل لجأ بعضها الى استخدام (بالسخرة) لخطوط التجميع التي كانت قائمة في »شركة نصر« التي كانت تجمع »فيات نصر«، أو في مصانع هيئة التصنيع الحربي العربية (وهي تجربة رائدة ضربت وهي قد بدأت تعطي ثمارا يانعة) أو في مصانع الكوكا كولا والبيبسي كولا.
باختصار فإن التوظيف أقل مما يجب، والعائد أكثر مما يجب، وبحسبة بسيطة يمكن تبين ان مصر تخسر بالنتيجة ولا تربح، وتخسر بالدولار!
الواقعة الثانية ان نسبة كبرى من القروض الميسرة التي تمنح لبعض الشركات والمؤسسات الحكومية إنما تذهب كمصاريف للفريق الأجنبي المكلف بعملية التنظيم والتطوير، وثمة وقائع أشبه بالفضائح في مجالات عدة، بينها قطاع الاعلام بالصحف والمطابع ووكالة الأنباء الرسمية.
أميركا، أميركا، أميركا… ولكن لا مجال لاستيراد الحل لأزمات الدول في طريق النمو جاهزا.
ولا مجال لمعونات بلا شروط.
ولا مجال للفصل الكامل بين واشنطن وتل أبيب..
وهكذا يغدو الحل المفترض أو المرتجى مشكلة بذاته.
لكن هذا حديث آخر ستكون لنا إليه عودة..
طلال سلمان

Exit mobile version