طلال سلمان

عن اللقاء الاخير مع رفيق الحريري ليل الاحد 13 شباط 2005

باشرني الرئيس رفيق الحريري بسؤال مركب: من التقيت هناك؟عرفت انك قبل مجيئيك اليّ كنت في دمشق. عال. ماذا يقولون؟ ماذا عني؟ سمعت أن بعضهم عاتب، وبعضهم غاضب. ما هو انطباعك. اريد أن تساعدني في فهم موقفهم. اعرف أن بعض زوار دمشق ينقلون عني ما لم اقله، وينقلون اليّ بعض ما لم يسمعوه فعلاً في دمشق، ولكنهم يحاولون اذكاء نار الفتنة..

همهمت متردداً، ثم انطلقت اتحدث عن اختلاف دمشق بشار الاسد عن دمشق حافظ الاسد، مشدداً على أن الفروق بين الشخصيتين ملفتة جداً: أحدهما يتعامل مع التاريخ بصيغة انه يسهم في صناعته، والثاني يتعامل مع اليوم والغد انهما امتداد للأمس، والحياة تستمر بوتيرتها العادية، وان “ارث الوالد” لا يمكن تذويبه او شطبه ومهمته الشخصية تقتصر على حفظه وحمايته من المخربين والمتآمرين على النظام.

قال: هل توضح الامر أكثر؟ … فالأقوال عني كثيرة ومتناقضة.. ولكنني، في ما يقال عني، صاحب غرض، وصاحب الغرض يحب أن يرى الناس والاحداث بعين رغبته، او أغراضه اذا شئت..

قلت: إذا شئت الاختصار اقول إن الاسد الاب قد يستفزك بطول اناته وبأسئلته التي لا تنتهي، حتى وهو يعرف الاجوبة، اما الاسد الابن فيتصرف وكأنه مطالب بأن يعرف كل ما يعرفه ابوه، وهو يضيق ذرعاً بهذه المطالبة، ويصّر على أن يقول في كل لحظة: انا لست هو، إن خبراته بغير حدود، لقد عرف ـ ربما ـ اكثر مما يجب، ولقد كنت بعيداً عنه اتابع دراسة الطب، في دمشق ثم في بريطانيا مسلماً أن اخي الراحل باسل سيكون وارث الرئاسة وان دوري سيقتصر على مساعدته… ولعلني اشعر انني الرئيس برغم انفه، ولكنني سأكافح حتى اكون “انا” من دون أن اغضب الواد القائد والمرشد والمعلم.

كان يتابعني مصغياً باهتمام.. فاستدركت: هذا تحليلي.. وقد اكون مخطئاً او منحازاُ للأب الذي عرفته، مثلك، وامضيت ساعات طويلة في محاورته والاستماع اليه، لتجربته الغنية وهدوئه الذي يؤكد ثقته بنفسه وثبات اليقين بقدرته على الاقناع بعد الاستجواب المستفيض لضيفه حتى يعرفه اكثر..

قال رفيق الحريري: لعله من سوء حظ لبنان، كما سوريا، أن نخسر هذا القائد العظيم بينما نحن الآن في اشد الحاجة اليه. مع ذلك فإنني اتوقع أن ينضج الرئيس بشار وهو يستذكر فيستعيد تجربة ابيه العظيم..

قلت: أن شاء الله، ولكنني افترض أن عليك وامثالك ممن يتوجب عليهم أن يتعاملوا معه، أن ينتبهوا دائماً الى انه ليس اباه، ليس حافظ الاسد، مع انه ليس خارجه تماما.

قال: انا على اتم الاستعداد، واتمنى أن يكون مثلي مستعد للتعاون.

انتقلنا بالحديث بعد ذلك إلى الشؤون المحلية، قبل أن يفاجئني الرئيس الحريري بقوله: تعرف انني عشت طويلاً في السعودية ، وهناك تعلمت أن الصبر اساس النجاح، وان المتعجل يخسر الماضي والحاضر..

هززت رأسي موافقاً، فأكمل قائلاً: انظر إلى “اوجيه” انها خلاصة تجربتي وعنوان نجاحي، أما الصبر فهو يزرع وينمو في الصحراء ثم يجري توزيعه على العالم شرقاً وغرباً.. ولا تنسى انني نشأت ومن حولي الجمال، قبل أن تتكاثر السيارات في السعودية.

كانت الساعة قد بلغت العاشرة والنصف فقمت مودعاً، ومشى معي رفيق الحريري مودعاً، وأصّر على الهبوط معي في المصعد ثم رافقني حتى السيارة.


عدت الى مكتبي في “السفير” لاكتشف أن الرئيس رفيق الحريري كان قد التقى عصراً الزميل عماد مرمل وأجرى معه لقاء سريعاً لم يبلغني عنه، لأنه شغل بالحديث عن دمشق وصاحب القرار فيها، مع تمدداته وانعكاساته على بيروت ومن فيها.


صباح الاثنين كان عليّ أن اقصد مبكراً إلى مستشفى الجامعة الاميركية على موعد لإجراء فحوصات دورية.. وغرقت في الدوامة بين بعض الاطباء ومركز الاشعة.

قبل الواحدة بقليل سمعنا انفجاراً قوياً جداً، اهتزت معه الابواب واجهزة الاشعة، وسيطر جو من الرعب على الجميع: اطباء وممرضين ومرضى..

تجمعنا في مكتب اداري به جهاز تلفزيون: كانت الشاشة بيضاء تقريبا وفهمنا أن الانفجار الهائل قد شوش على الارسال.

تعاظم القلق مع تزايد التخمينات والتقديرات المتسرعة قبل أن يبدأ وصول الاخبار الأولى عن الحجم غير المألوف للتفجير، وعرفنا أن موقعه امام فندق السان جورج على الشاطئ عند الكورنيش المؤدي إلى الزيتونة ـ عين المريسة.

تدريجياً أخذت الصورة تتضح: استهدف التفجير موكب الرئيس رفيق الحريري، الذي بدل ـ في اللحظة الاخيرة ، مسار موكبه فاختار الطريق البحري بدلاً من الصعود من حيث كان المجلس النيابي عبر ساحة النجمة ـ المعرض ـ بشارة الخوري ليلتف من عند القصر الجمهوري السابق عبر الحمراء في اتجاه قريطم.

تجمعنا في مكتب الطبيب المشرف من حول شاشة التلفزيون كان ينقل وقائع ما حدث. في البدء كانت الصورة مشوشة، ثم بدأت التفاصيل تظهر بوضوح: سيارات الموكب محطمة يتصاعد منها اللهب، وبعض الناجين يتقافزون هربا من النار والحطام، وسيارات الاطفاء والاسعاف تتزاحم والناس يتراكضون في اتجاه مع موقع التفجير..

بدأ الهمس يتحول إلى أسماء: انه موكب الرئيس الحريري..

كنا قد تكوكأنا حول مدخل المشرحة يعتصرنا مزيج من القلق والخوف والحزن: أي زلزال ضرب لبنان؟ اية كارثة ستواجهها البلاد..

ثم انهمرت التساؤلات: من هو المفجر؟ من هو صاحب المصلحة في تفجير لبنان؟ لا مصلحة لسوريا في هذه الجريمة، فالرئيس الحريري صديق دمشق، بل أن البعض يعتبره “رجلها”..

نبر بعض المتجمعين بحزن: ضيعانك ، يا رجل الاعمار..

قال ثالث: لعلها اسرائيل.. هي صاحبة المصلحة في تفجير لبنان..

قال رابع: طبعاً ، سنجد من يسارع إلى اتهام سوريا..

قال خامس: ولكنه كان “شغال على الخط”. كل اسبوع، تقريباً، في دمشق.

قال سادس: لا عدو للحريري في لبنان، وخصومه ليسوا قتلة.. بل أن معظمهم كان يكبر بخصومته..

فجأة اطل علينا، نحن المحتشدون عند باب الطوارئ، موكب يتقدمه وليد جنبلاط وفيه بهاء رفيق الحريري وآخرون..

اقترب وليد جنبلاط مني وقال: عوضنا سلامتك. صديقك راح!

قلت: وسلامتك المهم الآن، سلامة لبنان!

..ودخل لبنان في الدوامة الدموية المفتوحة.

Exit mobile version