طلال سلمان

عن الفياض رهافة وبهاء رؤية

لكم كان صاحب رؤية والد هذا المهندس المبدع حين أطلق عليه اسم «رهيف». لكأنه هو «المهندس» وصاحب الرؤيا، الفياض بحب الجمال وإمتاع العين وإنعاش روح الإنسان.
ولقد تأخرت في التعرف إليه، شخصياً، وإن كنت قد شهدت ولعلني شاركت – من موقعي – في معركة حماية بيروت بتراثها المعماري، والأهم بروحها كعاصمة تحتضن اللبنانيين جميعاً، مع ضيوفها من الإخوة العرب او الزوار الأجانب، رجال الأعمال أو الصحافيين او السياح الذين يجيئون إلى المشرق عموماً، ويتخذون من هذه المدينة المفتوحة أمام الجميع محطة للثقافة والمتعة، هي التي تجتهد في أن ترضي مختلف الأذواق والهوايات. فهي العاصمة الثقافية للمشرق، بأكثر من ثلاثين جامعة تطلق بالعلم نخباً وطنية وعربية، وهي دار النشر العربية، وهي قلعة الصحافة والإعلام، هي المكتبة بالكتاب والصحيفة، وهي المصرف والمكتب الاستشاري، وهي الفندق والمطعم والمقهى جامع المثقفين شعراء وكتاباً ورسامين ورواة أمجاد، ودار السينما، والملهى الذي يمتع زوار الليل بالطرب مشرقياً صافياً وغربياً حديثاً.
كان رهيف فياض واحداً من قلة قليلة جمعت كبار المهندسين ممن يهتمون بروح المدينة، وبطابعها المميز، وأساساً بقلبها الذي ينبض بحب الناس، أهلها وسكانها والآتين إليها من مدنهم وقراهم البعيدة بشوق من يعتزون بعاصمتهم التي تقبلهم جميعاً، بالأغنياء منهم ومتوسطي الدخل كما بفقرائهم الذين يقصدون أسواقها للتبضع او للاطمئنان إلى أحوال أبنائهم الذين يدرسون في جامعاتها.
وكان رهيف فياض من تلك القلة من البنائين الذين حاولوا حماية حق أبناء المدينة وسكانها الذين يشكلون حوالي نصف اللبنانيين، في البحر، فلا تسد مشهده العمارات الباذخة والغالية، طاردة متوسطي الدخل وحتى من يعدون أغنياء بتعبهم أو بإرثهم العائلي، ولا تجعل شاطئه الذي كان مفتوحاً للجميع ملكاً للقلة القليلة من المستثمرين يبيعون مشهد البحر في مسابحه المملوكة بالإيجار الوهمي لمن يستطيع أن يشتري ساعة من السباحة أو التأمل بجهد يوم كامل، فإذا كان صاحب عائلة فبدخل أسبوع او كثر.
كانوا بضعة مناضلين أفذاذاً يحبون الناس ومدينتهم العاصمة. اجتهدوا في حفظ طابعها المميز، حتى لا تصير مدينة بلا روح ولا تاريخ، لا يعرف من يدخلها أنه في الشرق، وأنه سيحظى بمشهدية يسكنها الإرث الثقافي ويميز عمارتها موقعها عند باب المنطقة على الغرب وفي قلب التقاطع بين الحضارات التي تعاقب قيامها في هذه الأرض وكان أهلها بين روادها.
ولقد نشبت معركة شرسة بين الذين يريدون أن يجددوا بناء ما تهدم من بيروت خلال الحروب قاتلة التراث والفن، وهم عشاقها المبدعون الذين يحترمون التاريخ وحق الإنسان في التنفس، وبين الذين يعملون لعرض بيروت في المزاد العلني فيبيعون أرضها القائمة حديقة بين البحر والتلال المحيطة التي تتدرج ارتفاعاً حتى حضن صنين، لمن يدفع أكثر فيشتري الأحياء والساحات ويقتل الأشجار وأصص الورد التي تضمخ الهواء بعطرها.
قاتل الراحلون هنري إده وعاصم سلام وفضل الله داغر وعبد الحليم جبر، ومعهم رهيف فياض، بلا هوادة بعلمهم وبذائقة الجمال التي تميزهم وبكفاءاتهم العالية، وهم الذين درسوا الهندسة كفن وعلم وفهم لطبيعة الموقع وتوفير شروط الحياة الصحية مع الإفادة من الشاطئ المفتوح بلا حدود، في كنف هذه السلسلة من الهضاب الخضراء، او التي كانت خضراء، والتي يحفها صنين بثلجه ما بين أواسط الخريف ونهايات الربيع.
خاض هؤلاء الفرسان الخمسة معركة حماية روح بيروت مع مراعاة سنة التطور في فن العمارة، بحيث يجيء البناء الجديد، لا سيما قلب المدينة، وكأنه استعادة متطورة لقلب بيروت باعتباره ملتقى اللبنانيين جميعاً، عبر أسواقها المتخصصة مع حمايته مبدأ: أن مشهد البحر حق مطلق للجميع.
ولقد كان قلب بيروت ملتقى جميع الوافدين إليها مع أبنائها، في الأسواق كما في الدوائر الرسمية، وفي مرائب وسائط النقل الآتية من مختلف المناطق والعائدة بمن منحتهم بيروت المدينة الدهشة والانبهار بعاصمتهم الحاضنة.
والمتقدمون في السن، مثلي، يستذكرون أن ساحة البرج أو الشهداء على سبيل المثال كانت تستقبل على مدار ساعات النهار والليل عشرات ألوف العابرين أو المتبضعين أو أصحاب معاملات تتطلب مراجعة الدوائر الرسمية، كالقضاء، ومواقع القيادة للجيش والدرك والشرطة… ويربط بين الجهات المختلفة وسيلة نقل رخيصة وعملية هي الترامواي الذي كان له ثلاثة خطوط تنطلق من فرن الشباك والدورة والمقاصد أو الحرج لتصب في قلب بيروت حيث يكمل الترامواي سيره في اتجاه المنارة، وبكلفة تكاد لا تذكر.
لكل بلاد عاصمتها التي يعتز أهلها بها.. لكن بيروت أكثر من عاصمة، إنها لبنان مصغراً، بل هي الشرق العربي مصغراً مع بعض الغرب وقد اعتمر الطربوش، هي المعبر والمصيف، هي المشتى ودار تلاقي العوالم. هي المكتبة والجامعة والمسجد يلاصق الكنيسة، والكنيس اليهودي، لم يمسه آلاف آلاف المتظاهرين الذين طالما عبروا الشارع قريباً منه في تظاهرات الاستنكار لجرائم العدو الإسرائيلي منذ احتلال فلسطين، مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر 1956 وبعده الاحتفاء بإعلان قيام دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة 1958، وصولاً إلى الحشد غير المسبوق في التشييع الرمزي لجمال عبد الناصر من دون إغفال تظاهرات الحركة الوطنية دعماً للعمل الفدائي الفلسطيني أو تظاهرات الاتحاد الوطني للطلاب ومعه حركة الوعي مطالبة بتعزيز الجامعة الوطنية، أو اعتراضاً على النظام الطوائفي اللاغي هوية اللبنانيين كمواطنين.
كان لكل حي طابعه: الأشرفية بتراثها المعماري ذي الوجاهة الأرستقراطية يتدرج نزولاً إلى الجميزة الحي السكني بعماراته المتلاصقة على ضفتي خط الترام الموحدة في ارتفاعاتها والسطوح القرميدية، حيث أقام الجنرال ديغول أياماً فيها خلال الحرب العالمية الثانية. فإلى ساحة البرج حيث تجد الجميع، أبناء بيروت في أسواقها والوافدين من المناطق، والأسواق التي تزدحم بقاصديها: المعرض، سوق سرسق، سوق الصاغة، سوق اياس وغيرها ومن حولها دور السينما والمقاهي وفي الخلف سوق القزاز وسوق النجارين وفي القلب ساحة البرج التي يتلاقى فيها اللبنانيون جميعاً الآتون من مختلف الجهات، فيتعارفون وقد يدخلون المقاهي أو دور السينما.. قد يستدرجهم مسرح فاروق الذي كان يستضيف الفنانين من مصر خاصة وسائر الأقطار، وعند الطرف الأعلى مسرح الباريزيانا للطرب الخفيف. أما على الزاوية الجنوبية ففندق أميركا وتحته المقهى الكبير.. وفي المقابل المقهى المستجد الذي حمل اسم لاروندا وإلى جانبه داران للسينما، وعلى مبعدة خطوات داران أكبر وأفخم، الأمبير والروكسي، ثم ثالثة ألدورادو في الجهة المقابلة، واللوحات الخشبية الضخمة بريشة الرسام خليل.
كان لمنتصف الليل نكهته الخاصة: رواد السينما يخرجون زرافات ووحداناً، قد يقصد بعضهم المقاهي القريبة لإطالة الليل وقد يذهب بعض آخر إلى مطعم العجمي الذي تعتليه جريدة النهار، وقد يجيء باعة الصحف مبكرين وقبل أن ينفضّ السامرون فيعود كل منهم وفي يده صحيفته.
عند التقاطع بين المعرض وبين شارع المير بشير يقع مسرح (وسينما) التياترو الكبير الذي استقبل ذات يوم مسرحيات مصرية يؤدي الأدوار فيها كبار الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، وغير بعيد عنه مقهى فلسطين، أما المعرض ففيه المطاعم والمحلات الشهيرة تمتد على الضفتين حتى ساحة النجمة التي تقف على حراسة الديموقراطية في مبناها العتيد: مجلس النواب.
المساجد تجاور الكنائس، وكل يذهب إلى مقصده حيث الإله الواحد.
أما أمام بناية اللعازارية التي تواجه كنيسة مار جرجس فقد كان الرصيف أهم معرض دائم للكتاب… يقصده الطلاب وعشاق الثقافة فيختارون من بين الكتب المستعملة، وبينها ما هو مهم، وقد فرغ أصحابها من قراءتها فباعوها لمكتب أو لمن وجد في بيع الكتب المقروءة من قبل مهنة يعيش منها ويخدم بها فقراء القراء وهواة الثقافة.
تمتد سكة الترامواي من ساحة البرج إلى الحرج مخترقة الباشورة والبسطة التحتا والبسطة الفوقا والنويري والمزرعة… أما الخط الثاني فيمتد من ساحة البرج إلى المنارة مخترقاً باب إدريس ووادي أبو جميل وغراهام وشارع بلس الذي يمتد مع سور الجامعة الأميركية في بيروت حتى حبيش وصولاً إلى الروشة ـ المنارة.
غير بعيد عن اللعازارية كان يقوم الكونسرفتوار الوطني وفيه المعهد الموسيقي، أو ما يمكن اعتباره كلية الفنون الجميلة حيث يدرس الرسامون وقد تخرج منه مبدعون كثر احتلت لوحاتهم الصدر في بيوت المتذوقين.
أما إذا صعدت من ساحة رياض الصلح في اتجاه الحمراء فستعبر من جانب قصر هنري فرعون، ثم القصر الرئاسي القديم الذي أمضى فيه بشارة الخوري ولاية ونصف ولاية، ثم ورثه كميل شمعون.. لينقل بعد الرئيس فؤاد شهاب مقر الرئاسة إلى صربا، قبل أن تهرب الرئاسة بقصرها إلى بعبدا.. عاصمة المتصرفية، والشرفة الجبلية المطلة على بيروت، من فوق.
أما خلف القصر الجمهوري فشارع سبيرز بطابعه المميز، ومن خلفه الحي الأنيق زقاق البلاط بعمارته التراثية، والبطريركية، التي تواجهها مدرسة الليسيه والمدرسة الإنجيلية.
لكل حي طابعه بنكته ونسقه المعماري. حتى الأحياء التي تزدحم فيها الطبقة الوسطى كالبسطة ـ النويري ـ والمزرعة وفي الجانب الآخر رأس النبع الذي يشكل شارع فؤاد الأول الفاصل بينه وبين سباق الخيل وعلى طرفه قصر الصنوبر الذي أعلن منه وفيه قيام الدولة في لبنان برعاية فرنسية مؤكدة بالصورة، ومن خلفه حرج بيروت… أما عند خط الترام الذي يربط فرن الشباك بساحة البرج فتقوم وزارة الدفاع مقابل الجامعة اليسوعية التي تمتد بكلياتها مع الخط.
اليوم تمشي في الشوارع تائهاً، تكاد لا تميز بينها: عمارات شاهقة الارتفاع لا توحد بينها رؤية ولا يجمعها طابع مميز يكشف لك روح المدينة.
اختفى الشجر الذي يكسر حدة الإسمنت، واندثر القرميد الذي كان يضفي بالأحمر لوناً حاراً يكسر برودة الزجاج المحايد.
لعلها المدينة الوحيدة في العالم التي لا رئة لها تتنفس عبرها، وتلون بالأخضر الهياكل الرمادية للأبراج الشاهقة التي يتبدى العابر أمامها كقزم يتحدر من عالم آخر.. أما الحدائق في المدينة التي تباع أمتارها بالذهب فهي بنظر بناة الأبراج إهدار للثروة الوطنية.
لا وسائل نقل عام لأنها مدينة أفراد لا مدينة جماعات تنتظم في لحمة شعب واحد. كل في سيارته، اختفى الترامواي الذي كان مثل الشرايين يربط بين أرجاء المدينة، ويتيح للناس – فقراء الناس ومعهم متوسطو الحال ـ أن يتلاقوا في قلب تلك العلبة الطريفة التي تسير بالكهرباء. يبدو أن قرار منعها قد اتخذ لأنها تسير في خط مستقيم، إجمالاً، فلا تخرج عن الخط وتجبر قادة السيارات على الالتزام بأصول السير، فلا يتقافزون فيسدون المعابر متسببين بأزمة سير خانقة، وكل منهم ينظر إلى الآخرين، المزاحمين، شزراً ويكاد يهتف بهم: أنا أولاً، فتراجعوا!
مكلفة الحداثة!. تفرض على المدينة أن تكون بلا قلب. ثمة واجهة فخمة للإغراء، ولسد منافذ النور والهواء على الأحياء الفقيرة في الخلف حتى يقتنع أصحابها وساكنوها أن المدن ليست للفقراء بل هي للأغنياء حصراً، وعلى الفقراء أن يتراجعوا إلى البعيد حتى لا يزحموا الشوارع ولا يشوهوا أناقة المدينة المعروضة للبيع.. لمن يدفع أكثر!
تستذكر المدن التي زرتها أو تلك التي «تفرجت» عليها في الكتب فخمة الطباعة والورق: لكل مدينة قلب، بل إن لكل جهة من المدينة قلباً بطابع مميز.. تكاد تعرِّفك إليها من قبل أن تزورها، فإذا ما زرتها قصدت مباشرة معالمها التي وصلت إليك قبل أن تصلها.
وهذا ما حاول المناضلون عاصم سلام وهنري إده ورهيف فياض ومن معهم من أهل بيروت، متوسطي الحال، حمايته وتطويره من داخل منطق معماري له روح الشرق ففشلوا.
أخطر من رهيف فياض المهندس هو رهيف فياض الكاتب: إنه يجمع بين موهبتين، حس الجمال والقدرة على التعبير بلغة من أجنحة فراشات ملونة مع متانة السبك وجزالة في المفردات وأناقة في الصورة حتى لتكاد تكون شعراً. إنه يقدم بالكلمات لوحة رائعة عن رؤاه قبل أن يجسدها عمارات وبيوتاً مسورة بالأخضر، لا تسد الأفق أمام النظر ولا تحاصر سكانها بالإسمنت وتتفتح عبر الشوارع مساحات للضوء والهواء والعصافير وأسراب الحمام المتجول كأنما هو حارس الأفق المفتوح لأجنحته.
عنوان الهندسة الإنسان في المكان. الإنسان هو الأصل في إعادة تشكيل المكان: الشوارع والساحات والمتاجر والمنازل، المدارس والمستشفيات، دور العبادة والعمارة والتقاطعات بين الأحياء السكنية ومراكز الخدمات… والشجر ثم الشجر ثم الشجر الذي ينشر شميم الحياة فوق الحجر وكتل الإسمنت فيكسر حدتها.
حراس التراث وروح المدينة يستحقون التكريم.
ولعلنا نستذكرهم ونكرمهم جميعاً عبر هذا المناضل الذي شارك في صد الاجتياح الإسرائيلي بأن أسهم ـ برأيه كما بقلمه، وبالرؤيا كما بالعلم، في إعادة بناء بعض ما هدمته وحشية الصهاينة الذين حاولوا اغتيال إرادة الحياة فغلبتهم فانقلبوا مهزومين، وعادت الضاحية أبهى مما كانت وأجمل.
رهيف فياض: لقد أعطيت أهلك كثيراً، ومن حقك عليهم أن يقولوا لك شكراً.
ولعل هذا الحفل ينوب عنهم فيقول باسمهم جميعاً: لك العمر الطويل ولقلم إبداعك الخصب والرواء وهو يبني بلغته عمارة تشبه اللوحة بل القصيدة.. وإلى مزيد من النضال من أجل حق الإنسان في مدينته، ومن أجل بناء الوطن الأجمل بأبنائه ولأبنائه ومن ثم للإخوة العرب ضيوفاً في بيوتهم بيوتنا، وللقادمين أو العابرين هذا الشرق الذي كان نوَّارة علم وثقافة … وسوف يعود، ولو بعد حين!

Exit mobile version