طلال سلمان

عن العودة الاميركية الى بيروت

عاد »الشبح الأميركي« يجوس في شوارع بيروت ومنتدياتها السياسية، سالكاً أحياناً بعض الطرق الجبلية لاستكمال ملف الإعلان عن عودة واشنطن إلى لعب »دورها اللبناني« الذي شحب في السنوات القليلة الماضية حتى بات »رمزياً« أو قانعاً بصفة »المراقب« مع احتفاظه بحق »الفيتو« في الأساسيات.
ومن قبل أن تصل وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، كانت قد تكاثفت الرسالات والاشارات عن نية واشنطن العودة، ولعل تصرفات الوزيرة وأحاديثها ان في المحادثات الرسمية أو في اللقاء السياسي المفتوح في »فوروم بيروت« كانت ترسم إطار الحركة وتوفر »للراغبين« في الانضمام إليها »برنامج عمل« لم يترك تفصيلاً إلا وذكره حتى لا يسيء أحد التقدير أو يدعي أحد من المعنيين أنه لم يتبلّغ..
وبين »برنامج فوروم بيروت« و»الهدية« التي سبقت وصول مساعد أولبرايت لشؤون الشرق الأوسط مارتن أنديك إلى العاصمة اللبنانية، ممثلة بالاعلان عن »نجاح واشنطن« في فتح معبر كفرفالوس، كانت رسائل كثيرة قد وصلت »إلى مَن يهمهم الأمر«، وكان السفير الأميركي ريتشارد جونز قد نشط بشكل مكثف للتأكيد على الانتقال من دور »المراقب« الى دور »الشريك« في المسؤولية عن الوضع في لبنان.
لم يكن في الحركة ما يستفز سوريا، أو ما يسيء إليها، أو ما يمكن أن يحرك هواجسها الأمنية… بل حرصت واشنطن على تطمين دمشق إلى أنها إنما تساعد على »إشغال الفراغ« في »الوقت الضائع« نتيجة لتعثر العملية السلمية بسبب تعنت التطرف الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو،
وإذا كانت أولبرايت قد تحاشت أن تجيء من دمشق مباشرة إلى بيروت، موجهة بذلك رسالة إلى »كل لبيب«، فإن مارتن أنديك قد حرص على أن يطلع القيادة السورية مسبقاً على جدول أعماله في بيروت، وجاء من دمشق ثم عاد إليها مبالغة في »التطمين« وتوكيداً لاستمرار الالتزام الأميركي بالدور السوري »الحيوي والذي لا غنى عنه في لبنان«، أقله في المدى المنظور.
كذلك فإن الادارة الأميركية كانت حريصة، في وقت سابق، على إبلاغ دمشق بأنها لم تمنح العماد ميشال عون تأشيرة دخول لكي ينتقل إلى واشنطن حيث كانت لجنة خاصة من الكونغرس قد طلبته »للاستماع إليه« بناء على وساطة من الرئيس السابق أمين الجميل (الذي أدلى أمامها بشهادته فعلاً)… وإن كانت قد برّرت رد طلبه بأنها لم تغفر له أنه ذات يوم قد سحب الحماية الخاصة التي كانت مقررة للسفارة الاميركية في لبنان.
إنها سنة رئاسية. وهي سنة لن تكون حافلة بالانجازات على صعيد العملية السلمية التي كانت »مركز الحركة« الاميركية في »دول الطوق«. وليس لدى واشنطن ما تقدمه لدمشق وللبنان عبرها أو معها. إذن فلا بأس من »حركة مضبوطة« في بيروت تؤكد الحضور الاميركي والمشاركة الاميركية في قرارات فترة الانتظار، التي تتحمل واشنطن المسؤولية عنها.
إن لم ينجح »لبنان أولاً« فلتتخذ المحاولة عنوان »جزين أولاً«، فإن سقطت المناورة فليقدم دليل على حسن النية بحركة محدودة: فتح معبر كفرفالوس، لعلها تكون مقدمة لخطوات أخرى، جزئية، ولكنها مرشحة لأن توسع هامش المناورة الاميركية، داخلياً، وهامش المناورة الاسرائيلية على الصعيد الفلسطيني حيث يهدد الجمود بتفجير الوضع، وحيث لا بد من الايحاء لعرفات انه ان لم يقبل »العرض الاسرائىلي اليتيم الذي لا يستطيع رفضه« فثمة احتمالات اخرى في مكان آخر… ومع انها مناورة مكشوفة، ومكررة ومعادة، فلا أحد يضمن ألا يستجيب عرفات فيقدم المزيد من التنازلات المنعشة للتطرف الاسرائيلي والمربكة للصمود السوري اللبناني،
في كل الاحوال فواشنطن تتاجر بمال غيرها، وهي شريكة في الربح بينما الخسارة على الاطراف العربية المعنية: فلسطين دائما، ومعها سوريا ولبنان.
أما إسرائيل فهي تجني مزيدا من الربح في حال النجاح الاميركي كما في حال الفشل،
وبهذا فهي غير متضررة من هذا »التبدل« في طبيعة الدور الاميركي في لبنان، بل انها بالتأكيد مستفيدة منه، وأولى فوائدها توفر بدائل جزئية تطمس الحديث عن »العملية السلمية« بإطارها الأصلي الشامل.
لقد رمت واشنطن بعض حجارتها في البركة الراكدة، وهي جاهزة لاستثمار الحركة المستولدة في لحظة سياسية مثيرة، ولا بأس من توسيع دائرة الاتصالات بحيث تخرق الحواجز التي كان محظورا خرقها من قبل، كرعاية بعض أصناف المعارضة، وتشجيع الآخر وصولاً الى تقديم »الحماية« للمناخ الانتخابي بدءا بالبلديات والمختارين وصولا الى الرئاسة الاولى.
لم يعد الاميركي في بيروت »شبحاً«.
ولم تعد الحركة مقيدة بالخوف من الخطف او الاغتيال على يد »منظمات ارهابية«،
بل ولم تعد مضبوطة ضمن معطيات العملية السلمية، يستوي في ذلك القرار 425 ومرتكزات مؤتمر مدريد.
واشنطن في الشارع الآن، وقد غيرت وجهة سيرها فصارت: بيروت دمشق، بعدما كانت لسنوات طويلة بيروت عبر دمشق، وليس إلا عبرها.
تلك هي، المقدمة، والتفاصيل في شوارع بيروت، او هي في الطريق اليها.

Exit mobile version